علامات من الدهشة رسمتها ملامح أحمد عويس (36 عامًا) حينما وجد ابن شقيقه محمد (26 عامًا) المطارد لقوات الاحتلال الإسرائيلي ومجموعة من المطاردين يجتمعون حول طبق حلوى (صدر كنافة) ويطلبُ منه الاقتراب لتناولها، ما أثار فضوله لمعرفة السبب: "ايش مناسبة هالكنافة؟" بابتسامته المعتادة ترك إجابة غامضة: "اعتبرها حلوان مسبق".
مساء الأربعاء الماضي، كسر رنين الهاتف حوارًا دائرًا بين أحمد وأحد أصدقائه في بيت عزاء شهداء جنين، وكان المتصل يخبره بنبأ قصف طائرات الاحتلال سيارة على شارع "الناصرة"، شمال جنين، للحظة تجمدت الكلمات في حلقه، مستذكرًا حديثه مع ابن شقيقه، ليعطيه إجابة مصدرها حدس داخلي: "هذا محمد، ابن أخي".
سرعان ما أمسك "أحمد" هاتفه وبدأ يتصل بابن شقيقه، وعندما لم يرد، انطلق بسرعة نحو بيته الذي يتحصن فيه بمخيم جنين، ليجد هاتفه متروكًا في البيت، فعادةً ما يتركه عندما يذهب لتنفيذ عملية مقاومة.
أما بشار عويس والد محمد الذي غادر بيت العزاء، كان أقرب إلى صوت القصف الذي توارد إلى مسامعه، عندما اهتزت المركبة التي يستقلها، ما أعاد ذكريات "انتفاضة الأقصى" وأصوات القصف العنيفة التي ما تزال محفورةً في ذاكرته، حيث استطاع تقدير مصدر الصوت وتوقع ما حدث: "يبدو أنه قصف بواسطة طائرة، يا شباب".
تغيرت وجهة السيارة إلى مكان القصف، حيث شعر "عويس" بالصدمة عندما واجه منعًا من قوات الاحتلال لسيارات الدفاع المدني والإسعاف من نقل الشهداء، وبدلًا من ذلك، قرر الانتقال إلى المشفى، حيث ينقل الشهداء عادة في جنين.
في أثناء وجوده في المشفى، كان يستغرب نظرة الجميع إليه، وكأنهم يتهربون من نقل الخبر "المفجع" إليه، لا أحد يريد أن يكون ناقل الخبر، حتى أعلن عن أسماء الشهداء وكان ابنه محمد عويس إضافة لصهيب الغول، وأشرف السعدي، استوعب صدمة اغتيال نجله، لكنه لم يستطع استيعاب سبب حجز قوات الاحتلال لأشلاء الشهداء المتفحمة.
ابن بيت مقاوم
"استشهد في اليوم الرابع على التوالي من مشاركته في تنفيذ عمليات مقاومة في المنطقة نفسها"، في حواره مع صحيفة "فلسطين" يروي أحمد عويس تفاصيل الأيام الأخيرة في حياة ابن شقيقه "محمد"، معتقدًا أن المهمة التي قام بها محمد في ذلك اليوم كانت "نوعية"، لكن تفاصيلها لا تزال أسرارًا بين المنفذين الشهداء.
من بيت مقاوم قدَّم للوطن تضحيات، هكذا تربى محمد على سير أعمامه الشهداء والأسرى، فأعمامه الأسيران عبد الكريم وحسان عويس، معتقلان منذ عام 2002 ومحكومان بالسجن المؤبد، حيث امتشق السلاح مبكرًا في سبيل الدفاع عن وطنه.
كما أن عمه هو الشهيد سامر عويس، الذي استشهد من جراء جريمة اغتيال نفذتها طائرات الاحتلال في مخيم الأمعري بمدينة رام الله بتاريخ 10 أذار/ مارس 2002، بعد 21 عامًا التحق بعمه الشهيد، اللافت أنها كانت بنفس الطريقة وهي الاغتيال.
على الرغم من أنه كان يتوقع استشهاد ابن أخيه، إلا أن طريقة الاغتيال كانت مفاجئة وغير متوقعة، إذ يقول: "الشباب لم يدركوا خطورة الوضع، وبمراقبة الاحتلال لهم، وكانت المفاجأة صادمة باستهدافهم من الطائرة".
محمد عمل كـ"شيف" في أحد مطاعم جنين لمدة خمس سنوات، وأتقن إعداد جميع أنواع الأكلات، حتى أن موائد مناسبات العائلة كانت تتزين من تحت يديه، فيضفي لمساته على تلك الموائد ليقدم الطعام للضيوف بطريقة جذابة، وبالرغم من حبه لمهنته، قرر محمد أن يتخلى عن عمله قبل سنتين، وقام ببيع سيارته واشترى قطعة سلاح، وقاوم بها الاحتلال مدافعًا عن جنين حتى ارتقى شهيدًا.
الفتى المقاوم
استبدل عمّه الحزن والقهر بصوت الاعتزاز به "منذ أن بلغ 15 عامًا كان يعتمد على نفسه ولا يمد يده لأحد، لكنه ترك كل شيء وتفرغ للمقاومة، ومكث في بيت لوحده بالمخيم بعيدًا عن بيت عائلته، حتى لا يصيبهم أي أذى في حال استهدف".
تطرق ذاكرته صورة لطفولة ابن شقيقه قائلًا: "كان محمد يأتي إلى أماكن المقاومة وهو لا يزال طفلًا صغيرًا، وكان يحب حمل السلاح، مضيفًا: "كان يقول لي: "بس أكبر بدي أخد حق أعمامي".
كبر الطفل والتحق بصفوف المقاومة عندما اشتد ساعده، عاش بعيدًا عن عائلته لمدة عامين مطاردًا بين أزقة المخيم، كان من بين ثوار المخيم الذين يدافعون عنه في كل اقتحام حتى بات اسمه هدفًا لجيش الاحتلال.
كان الشهيد يعتبر عمه "سره الكبير" وحلقة الوصل بينه وبين عائلته وخاصة والدته التي لا تنفك بالاتصال على ابنها يوميًا لتطمئن عليه وتبرد قلبها، في كل مرة يقتحم فيها الاحتلال تتقد نيران الخوف داخلها ولا تنطفئ إلا حينما تسمع صوته أو تراه.
يمتلئ صوته بالفخر: "محمد كل حياته مواقف رجولية، متى تريده ستجده، كان يقاوم الاحتلال في كل الاقتحامات، ويظل حامل سلاحه منتظرًا دخول الاحتلال لمخيم جنين، بل كان هو الذي يطاردهم ويذهب لمواقعهم لإطلاق النار عليهم".