لم تعدْ سبسطية مألوفة لـ "مالك جمال"، فبعد أن اختفى ضجيج السياح الذي ملأ المكان ليلًا ونهارًا قبل سبع سنواتٍ، كان يعود منها في نهاية أيامها بما يكفي قوت أولاده ويزيد.
أوغلت يد الاستيطان الإسرائيلي كثيراً في المكان، وبات يوميًا عرضة لاعتداءات المستوطنين، ما جعل أقدام السائحين من خارج فلسطين المحتلة تهجره، "فما إنْ يسمعوا أن هذا المكان يشهد اشتباكات بين المستوطنين والمواطنين فإنهم ينأون عن المجيء له"، يقول مالك.
وحتى السياح المحليون أصبحوا لا يزورون "سبسطية" كالسابق خشية اعتداءات المستوطنين المحميين من جنود الاحتلال الإسرائيلي، الذين لا يتورعون عن الاعتداء على المواطنين، "بتُّ أذهب يومياً إلى هناك أتحسر على الماضي الجميل، حينما كان المكان يعج بالسياح، الذين يتسابقون لركوب الجمال، لكنه اليوم خالٍ من الناس".
ويقول مالك: "لقد انخفض عدد السياح بمعدل 80% في ظل إجراءات الاحتلال للسيطرة على المكان الأثري بالكامل، فقد أصبحت المنطقة حساسة أمنياً بوجود مستوطني مستوطنة شافي شمرون الذين لا ينقطعون عنها ليلاً ونهاراً".
ويوضح أن المستوطنين القائمين في المنطقة بصدد بناء متنزه خاص سيزيد الوضع سوءاً، "فوجودهم لن يقتصر على زيارة ما يدّعون أنه مقام يهودي، بل سيكونون موجودين طوال اليوم للتنزه، وهم يشقون الآن طرقاً جديدة في المكان تزيد من تحكمهم به، وستغلق الطريق أمام وصول غير اليهود للمنطقة الأثرية".
تراجع السياحة
أثر تلك الهجمات الاستيطانية لم يطل المناطق الأثرية فقط، بل أثر سلبياً في عمل مالك أيضاً، فلم يعدْ ذا جدوى مادية، "لقد أصبحت أصطحب الجِمال الخاصة بي للمتنزهات المحلية الأخرى في نابلس، بحثاً عن مورد رزق".
بدوره يبين رئيس بلدية سبسطية محمد عازم أن البلدة تتعرض لهجمة شرسة من الاستيطان، حيث رصدت حكومة الاحتلال أموالًا طائلة لتنفيذ مخططات استيطانية في المنطقة بهدف تهويدها، "وسيستولون في المرحلة الأولى على 152 دونمًا من مساحة المنطقة الأثرية".
ويقول: "عصابات المستوطنين تستهدف السكان في محيط البلدة بحرق مزارعهم، ويعتدون عليهم يوميا، عدا عما يجري من أعمال استيطانية، كشق طرق التفافية ضخمة ستهود المكان".
وتابع عازم: "كانت الاعتداءات في البداية مقتصرة على فترات الأعياد اليهودية، أما اليوم فالاعتداءات لا تتوقف يومياً، حيث يأتي مستوطنون بسيارات غير مرخصة في منتصف الليل، ويعتدون على المواطنين في محيط المنطقة ويدمرون ممتلكاتهم".
ويلفت إلى أنّ السياحة الخارجية لسبسطية أصيبت في مقتل منذ عدة سنوات، وظل الاعتماد على السياحة المحلية، الأمر الذي لم يرق للاحتلال بسبب أعداد المصطافين المحليين الكبيرة، فأصبح يعتدي بقنابل الغاز والصوت على السياح ما أدى لتقلص أعدادهم بشكل كبير.
تزوير تاريخي
وكانت حكومة الاحتلال الإسرائيلي قد أخذت قراراً بإغلاق المنطقة الأثرية التي تقع في مركز سبسطية ومن ضمنها ساحة "البازليكا" مركز المدينة الرومانية.
ويمضي عازم إلى القول: "يقوم الاحتلال بأذرعه المختلفة حالياً ببناء حدائق ومتنزهات إسرائيلية في المنطقة، كما قام قبل عاميْن بوضع جدران بطرق غير قانونية داخل الأماكن الأثرية بشكل مخالف لكل القوانين والأعراف الدولية، وخاصة قوانين منظمة اليونسكو".
ويعمل الاحتلال على قدم وساق – وفقاً لعازم- لتزوير أدلة تاريخية على وجوده في فلسطين، عبر سياسة فرض الأمر الواقع والغطرسة والدعم الدولي لممارساته العنصرية، التي تعمل على تزوير التاريخ، على الرغم من إدراك العالم أجمع أن الآثار في سبسطية تعود للعهود الرومانية والبيزنطية والعثمانية والإغريقية.
وتتناثر الأعمدة الرومانية في أنحاء البلدة، ويمكن مشاهدة بعضها بين حقول الزيتون، لكن حدود المدينة الغربية تنتهي عند السور الروماني، فـ"سبسطية" بالمفهوم العام جميعها موقع أثري، لكن بالنسبة لعلماء الآثار، فإن بقايا الحضارة اليونانية مثل البرج الهلنستي والمدرج، تقع ضمن المنطقة التي سيغلقها الاحتلال.
ومنذ 3500 عام عرفت "سبسطية" مسرحًا لأحداث تاريخية كبيرة، ففي عام 200م أصبحت مدينة مركزية صُكّت فيها عملة خاصة، ما جعلها على مدار القرن الماضي مربعًا للحفريات الأثرية التي دشنها علماء الآثار الغربيون قبل أكثر من قرن.