فلسطين أون لاين

​"رجال الإعداد" .. شهداء مع وقف التنفيذ فداءً للوطن

...
غزة - نور الدين صالح

ما إن تغيب شمس النهار ويحل الظلام، ويغفو الأنام ويعم الهدوء في أرجاء وأزقة شوارع مدينة غزة، يبدأ الشاب محمد عمر، وهو اسم مستعار، بتجهيز عتاده للانطلاق نحو المناطق الحدودية المحاذية للسلك الفاصل شرق المدينة المكتظة بالسكان.

دقائق معدودة بين الانتهاء من ارتداء بزته العسكرية والجلوس برفقة عائلته قبل الخروج من منزله، حتى أخذ يُقبل أطفاله الثلاثة، كونه يعلم مدى صعوبة المهمة التي سيتوجه لها.

بخطوات هادئة يتجه عمر للخروج من المنزل، ثم يتريّث قليلاً ويلفت وجهه ينظر لزوجته التي تحاول إخفاء دموعها، وتشجعه على مواصلة دربه في الجهاد وتقديم روحه فداءً للوطن.

يسير الشاب العشريني بخطوات متسارعة وكأنه يسابق الزمن نحو قدره، في رحلة استغرقت أكثر من عشرين دقيقة منذ خروجه من المنزل حتى وصوله لمكان عمله، فأخذ يعانق أصدقاءه في ذات المنطقة.

رغم كل المتاعب التي يدركها عمر خلال مهمته الصعبة، إلا أنه بدا عليه الإصرار وشغفه على ذلك العمل الشاق، حيث وهب روحه رخيصة لأجل الوطن وأن يحيى أبناء شعبه حياة كريمة.

حمل العشريني المعدات الثقيلة ونزل في رحلة "الموت" الثانية إلى أعماق الأرض لمواصلة عمله في حفر النفق الذي بدأ العمل به منذ ما يزيد عن شهر، متحدياً العوامل البيئية وحرارة الأرض العالية.

ولا يختلف اثنان على حجم الخطورة التي تواجه ذلك الفارس في كل لحظة، لطالما ينتظر الموت في كل ثانية يخطو بها خطوة نحو الأمام أسفل الأرض، لا سيما أن الرمال مهددة بالانهيار بين الفينة والأخرى.

يُمسك الشاب والعرق يتصبب على وجنتيه، بين يديه آلة حديدية، يدق بها جدران الأرض الرملية تارة يمنى وأخرى يسرى، في محاولة منه لتسهيل مهام المجاهدين الذين يستعدون للقاء العدو في أي معركة محتملة.

على مدار ساعات طويلة يمكثها ذلك الشاب المقدام تحت الأرض، كأنه في "قبر مُظلم"، يواصل عمليات الحفر وإعداد العُدة، لأجل أن يحيا أبناء شعبه حياة كريمة.

وهنا يكمن المعنى الحقيقي للعمل المحفوف بالمخاطر بل يمكن القول: "إن الموت يرافقه في كل جزء من الثانية"، كونه يعمل في باطن الأرض المهيأة رمالها للهبوط فوقه، واختفاء آثاره على حين غرة.

ومع انتهاء ساعات العمل في مواجهة "الموت"، وبزوغ قرص الشمس الذهبي في الصباح الباكر، يعود ذلك الشاب إلى بيته، ليمضي نهاره كغيره من المواطنين.

هذا سيناريو رسمه مراسل صحيفة "فلسطين" لإيصال صورة المعاناة وعذابات الموت التي يواجهها هذا الشاب وثُلة من الرجال الآخرين الذين يواصلون الليل والنهار في العمل.

ويبقى شهداء الإعداد هم الجنود المجهولون الذين حُفرت بصماتهم على كل سلاح ومضوا نحو العزة والتمكين، فسهروا الليالي الطوال من أجل دينهم وعقيدتهم ووطنهم.

وكانت كتائب القسام قد أكدت خلال حفل تأبين أحد شهداء الإعداد، مؤخراً، أنهم شامة عز ووسام فخر لشعبنا المجاهد، وتكريما لهم أن نمضي على طريقهم، مشيرةً إلى أنهم دفعة للمقاومة من أجل الاستمرار في طريقها للدفاع حتى دحر الاحتلال.

ووجهت الكتائب التحية لأرواح شهداء الإعداد من المقاومين، ولذوي الشهداء وعائلاتهم المعطاءة.

ويحظى شهداء الإعداد بحاضنة شعبية كبيرة، كونهم يقدمون أرواحهم وكل ما يملكون رخيصة فداءً للوطن, ويسهرون على راحة المواطنين.

وتُسطر عوائل هؤلاء الشهداء أسمى معاني الصبر والثبات، وإصرارهم على مواصلة درب أبنائهم الشهداء، فوالدة الشهيد أحمد البريم، قالت إن هذه الأنفاق هي الجدار الذي يحمي فلسطين والعرض.

وأضافت في كلمة لها عبر فيديو على موقع "القسام": "إذا انتهت فلسطين يعني انتهى الدين، ونهايتنا بنصر القدس، والمقاومة والأنفاق هما من يدافع عنا".

أما والدة الشهيد أنور الغلبان، فوجهت رسالة إلى نساء فلسطين قائلةً: "لا تندمن على أبنائكن الذين قضوا شهداء فداءً للوطن".

وأضافت: "أبناؤنا دفعوا دمهم وعرقهم، من أجل إحياء مجد الأمة، وهذه الأنفاق طريق التحرير للقدس".

وتجدر الإشارة إلى أنه رغم بساطة الأدوات المستخدمة في عملية الحفر والتجهيز، إلا أن تلك الأنفاق باتت مصدر قلق للاحتلال الاسرائيلي، وهو ما يدفعه لدفع مليارات الدولارات لصدها ومنعها.

وكان آخر ما توصل له الاحتلال وفق ما نشرته صحيفة "هآرتس" العبرية أنه بدأ بإقامة الجدار الاسمنتي الفاصل على طول الحدود مع قطاع غزة، من أجل توفير الرد على الأنفاق الهجومية، وفق زعمه.

ووفق "هآرتس"، فإن السياج الفاصل يرتفع قرابة ستة أمتار فوق الأرض، بينما يشيّد جدارا إسمنتيا على عمق عشرات الأمتار تحت الأرض، وتبلغ تكلفته حوالي 3 مليارات شيقل.