أبدأ من حيث انتهى مؤتمر فلسطينيي أوروبا(مستقل)، الذي طالب في بيانه الختامي بإعادة إصلاح منظمة التحرير على أسس ديمقراطية، لتكون بالفعل المظلة التي يستظل بها الكل الفلسطيني، يبقى السؤال الجاثم على صدور الفلسطينيين، كيف يمكن لمنظمة التحرير أن تحافظ على نفسها كحركة تحرر وطني وهيئة حاكمة؟ وكيف ستندمج حماس والجهاد الإسلامي في هياكل منظمة التحرير بعد عقود من الإقصاء؟ نتوقف قليلًا عن الإجابة على هذا السؤال لنتعرف بداية على الهدف الأساسي الذي من أجله أنشئت منظمة التحرير ومراحل الهدم الممنهجة التي لحقت بها طوال السنوات السابقة، إذ من المعروف أنها أنشئت في عام 1964 بقرار من المجلس الوطني الفلسطيني في مؤتمره الأول بالقاهرة، بهدف إعداد الشعب الفلسطيني عسكريًا وإنشاء الصندوق القومي الفلسطيني، واعترف بها كممثل شرعي للشعب الفلسطيني في الأماكن المختلفة، وبناء عليه أخذت المنظمة على عاتقها تحرير فلسطين، كيف؟ عبر ”الكفاح المسلح” كخيار إستراتيجي وشامل استنادًا إلى جميع قوى وإمكانات الشعب الفلسطيني وفصائله الوطنية في سياق وحدة وطنية، وتمثيل جميع مكونات قوى المقاومة الفاعلة، وبالفعل جسَّدت المنظمة في العقد الأول من عمرها (1964- 1974) قيمها ومبادئها الحقيقية ممثلة بإنجاز هدف التحرير، لكن المهم هو تطبيق هذه المبادئ على أرض الواقع، فهل فعلًا سارت المنظمة على هذا المسار، أم انحرفت عن مسارها من قبل المستحوذين عليها وهي حركة فتح؟
الإجابة على هذا السؤال والسؤال السابق يذكرنا بعام 1974، الذي تبنت فيه المنظمة برنامج “النقاط العشر”، الذي مثَّل محطة أولى وفاصلة في انحراف المنظمة عن البرنامج الوطني الجامع الحقيقي ممثلًا بالميثاق الوطني الفلسطيني، في وقت سيطرت حركة فتح بانقلاب أبيض على المنظمة ورئيسها الأول أحمد الشقيري، إذ مثلت استقالته فرصتها بالاستحواذ كليًا على منظمة التحرير وباتت لها كلمة الفصل في كل ما يصدر عنها، ومع مرور الوقت تحولت المنظمة إلى مجرد أداة لدى فصيل من أجل تنفيذ مشروعه السياسي الخاص، وبالتحديد في ما يتعلق بمشروع التسوية وصولًا الى اتفاق أوسلو، بعد أن أفرغت المنظمة من مضمونها وهدفها الأساسي، وأصبحت المنظمة عبارة عن “خاتم” في يد شخص وفي أفضل الأحوال في مجموعة من المقربين والمستشارين للسلطة القائم عليها حركة فتح لتقديم تنازلات باسم الشعب الفلسطيني المغيب تمامًا عن قضاياه.
وعلى أثر تطويع المنظمة لأجندات فتح، فقد مُهِدَ لاتفاق أوسلو عام 1993 منذ إعلان وثيقة استقلال دولة فلسطين على جزء من أرض فلسطين التاريخية، في انعقاد الدورة الـ19 للمجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر عام 1988، إذ اعترفت المنظمة بالاحتلال، دون استفتاء الشعب الفلسطيني، الذي كان لا يزال منتفضًا، ولعل المفارقة الغريبة أن (إسرائيل) لم تعترف بالمنظمة (وليس دولة) إلا بعد أن غُيرت بصورة رسمية الجمل والعبارات الموجودة في ميثاق المنظمة الداعية إلى القضاء على (إسرائيل) مقابل محاربة المقاومة، ونبذت الكفاح المسلح، وأكثر من هذا، فقد دمجت منظمة التحرير مع السلطة تحت عباءة مركزية وتنفيذية فتح، الأمر الذي أدى الى عزل المنظمة فعليًا عن الشتات الفلسطيني، ما يعني خضوعها لقرارات السلطة وسياساتها، وهذا يعني موافقتها على التنسيق الأمني مع الاحتلال، الذي بموجبه محاولة القضاء على المقاومة.
إن إصلاح منظّمة التحرير ليس مطلب حماس فقط، بل معظم القوى السياسيّة الفلسطينيّة، مثل حركة الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لكون هذه المنظّمة لا تعكس حقيقة سياسات القوى السياسية وطموحاتها على الأرض، بل هو مطلب لعامة الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وبالرجوع إلى مطلع هذا المقال، فيعد مؤتمر فلسطينيي أوروبا أحدث نسخة استفتاء فلسطيني على مستقبل منظمة التحرير، وتجديدًا لمؤتمر أمناء الفصائل بين رام الله وبيروت في عام 2022، الذي طالب بإصلاح منظمة التحرير، والسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا يطالب الفلسطينيون في كل مؤتمر وكل نقاش أو حوار سواء انعقد من قبل فصائل فلسطينية أو من عامة الشعب الفلسطيني في الداخل أو الخارج بإصلاح المنظمة؟
تعد منظمة التحرير أسيرة بيد السلطة، وكأنما أسرت الشعب كله، وهذا يفسر السبب وراء رفض عبّاس عقد الإطار القيادي المؤقّت للمنظّمة الذي يمهد إلى عمليّة الإصلاح، الذي كان يجب أن يتمَّ منذ ثلاثة عقود من وجود السلطة، التي لم تحقق أيًا من وعودها لشعبها، فلا دولة ولا عاصمة ولا حق عودة، وهي غير قادرة على حماية نفسها ولا شعبها من الاحتلال، بل تتعاون معه أمنيًا، لذا حان الوقت للإعلان بأن السلطة قد عفا عليها الزمن، فهي ببساطة غير مناسبة للأجيال الفلسطينية الحالية والمقبلة التي تتطلع إلى حقها في المشاركة السياسية والديمقراطية، وهي مطالب ترفض السلطة الأخذ بها، بدليل فوز حماس بالانتخابات التشريعية في عام 2006 هو مثال واضح على عدم قدرة السلطة على حماية الخيارات الديمقراطية للفلسطينيين حتى لو جاءت بانتخابات حرة ونزيهة.
ويمكن القول إن المنظمة بحاجة لتحريرها من القيود المفروضة عليها، وإرجاعها لأهدافها وصيرورتها التي انطلقت من أجلها أساسًا بإعادة بنائها، وإنهاء حالة التفرد والاستقصاء من قبل المهيمنين عليها، بل يجب إنهاء حالة التناقض في تركيبتها التنظيمية التي تسير عليها في ظل وجود فصائل فلسطينية صغيرة لا تحظى بقبول أو حضور جماهيري شعبي على حساب فصائل فلسطينية تمتلك عشرات آلاف العناصر عدا عن القواعد الشعبية وهما حركتا حماس والجهاد الإسلامي، حتى يمكن القول إنها -أي منظمة التحرير- تمثل جميع الفلسطينيين وهذا أكيد سيعزز من شرعيتها.