بين لحظة وضحاها انقلبت حياة الفتيين أحمد وحسن عبدالله المصابين بمرض "طيف التوحد" إلى مأساة أخرى تُضاف إلى معاناتهم الممتدة منذ إبصارهم نور الحياة مع هذا المرض بعد أن أصبح "المتنفس الوحيد" لهم كومة رماد.
رغم قّلة إدراكهم بما يُحيط بهم إلا أن ملامح وجوههم تحكي تفاصيل حالة الصدمة والانهيار التي اجتاحتهم بعدما انهار ذاك المكان الذي خصصته العائلة لهم فوق "سطح المنزل"، فلم تعد هناك "أرجوحة" ولا "الدُمى" التي يقضون معها جُل أوقاتهم بفعل الواقع الذي فرضه المرض.
في الثالث عشر من مايو/ أيار الجاري، حينما اقتربت عقارب الساعة من الخامسة والنصف فجراً، وقبل أن تسدل أشعة الشمس خيوطها في خضم ساعات قليلة من الهدوء الحذر خلال أيام التصعيد الإسرائيلي على قطاع غزة، دّبت صوت انفجارٍ عالٍ أرجاء المكان الذي يقطن فيه عائلة عبدالله، في معسكر جباليا شمال قطاع غزة.
لم يدر بخلد محمود عبدالله (51 عاماً) والد "أحمد وحسن" أن ذلك الصوت الذي هزّ سطح منزله هو من شظايا القبة الحديدية الإسرائيلية، حسبما يروي لمراسل صحيفة "فلسطين" الذي زار العائلة، ما أدى لاشتعال النار فيه.
تعالت الأصوات بين جيران عائلة "عبدالله" في معسكر جباليا، بعدما بدأ لهب الدخان الأسود يتصاعد ويشتعل أكثر فأكثر، وخرج العشرات ومعهم "أواني بلاستيكية" مليئة بالماء بُغية إطفاء الحريق، يُكمل "عبدالله" اللحظات الأولى لوقوع الحادثة.
حالة من الخوف والهلع عمّت بين أفراد العائلة المكونة من ستة أشخاص (ولدين مُصابين بطيف التوحد، وبنتين بلا مرض) بعدما أخذ الجيران ينادون "الحريق عندكم يا دار عبدالله"، فيصف الوالد المشهد "كان المنظر مُرعباً، النيران ضخمة ولونها أحمر من شدّتها".
خلال حديثنا مع "عبدالله" صمت قليلاً وأمسك بهاتفه المحمول يقلب مشاهد الحريق التي نشبت في أعلى المنزل، فيقول "أكثر ما يُؤلمني أن الحريق التهم كل الألعاب اليدوية التي صنعتها زوجتي لأبنائي أحمد وحسن المصابين بطيف التوحد".
اقرأ أيضاً: علاج جديد يحقق تحسناً طويل المدى للأطفال المصابين بالتوحد
حتى "المتنفس الوحيد" لم يسلم من بطش الاحتلال بعدما أصبح "رماداً"، ثم يعود بذاكرته حول صدمة أبنائه الذين لا يستطيعون التعبير عما يجول في خاطرهم بسبب ذلك المرض، فيحكي "حالة من الصدمة لا تزال تخيم على أحمد وحسن كونهم فقدا المكان الوحيد الذي يقضون أوقاتهم فيه طيلة اليوم".
وعبر هاتفه المحمول يفتح "عبدالله" فيديو آخر يوثق اللحظات الأولى لوصول نجليه وهما يتفقدان المكان وعلامات الحزن تخيم على مُحيّاهم وكأن لسان حالهم يقول "أين سنمضي وقتنا بعدما أصبحت ألعابنا كومة رماد؟".
ويضيف أن "حالة الغضب لا تزال تُسيطر على أحمد وحسن، بعدما اضطررنا لإغلاق باب سطح المنزل خوفاً من تضررهم من بقاء الأغراض المُدمرة، حيث يقضيان وقتهما بالتجول في أرجاء المنزل".
أما والدتهم "زينب عبدالله" تقف على أنقاض الألعاب المحترقة وتحكي بقلب مُكتوي بنار الحسرة والألم وهي تُشير بأصبعها نحوها "هنا كان يلعب أحمد وحسن في الألعاب التي صنعتها يدوياً لهم ويقضون فيها كل وقتهم".
وتُكمل عبدالله "بعد القصف أصبح المكان مأساة، فالمتنفس الوحيد لهم اختفى بلمح البصر، ما دفعنا لإغلاق السطح بالكامل، خشية أن يكون هناك مواد متفجرة أو سامة".
وتستذكر تلك الليلة التي وصفتها بـ "القاسية والصعبة" حيث تحكي أنها أصيبت بحالة من الانهيار العصبي بفعل الصدمة، وما زاد "الطين بلة" بالنسبة لها هو فقدان ألعاب أبنائها المصابين بالتوحد.
لم تتمالك "عبدالله" أعصابها فانهارت بالبكاء وهي تحدق بنظراتها المليئة بالحسرة إلى الألعاب المحترقة، فتوقفت عندها الكلمات واكتفت بقول "حسبنا الله ونعم الوكيل على الاحتلال الذي لا يفرق بين مريض وأطفال ونساء".
ويُعرف "مرض التوحد" أنه عبارة عن اضطرابات عصبية تتصف بوجود خلل في مظاهر النمو الاجتماعي والمعرفي، وتتمثل بعدم قدرة المصاب على التواصل واللغة والفهم والإدراك عما يجري حوله، حسبما تقول الاخصائية النفسية في الجمعية الفلسطينية لحالات التوحد والتأهيل مها عزام.
وأكدت عزام لـ "فلسطين"، أن مرضى التوحد يعانون واقعاً صعباً في قطاع غزة، ويحتاجون إلى المزيد من برامج التأهيل الأسري والمجتمعي.
وبيّنت أن المصابين بهذا المرض يحتاجون إلى خدمات نفسية وصحية ومعنية من مختلف فئات المجتمع، مشيرةً إلى أن القطاع يفتقد لهذا الأمر والمؤسسات المتخصصة الداعمة لهم.
وذكرت أن هذا المرض يصيب الذكور أكثر من الإناث، حيث يُصاب به من بين كل 10 آلاف طفل حول العالم (4-5) أطفال، وفق احصائيات عالمية.
وأشارت إلى أن الجمعية تقدم بعض البرامج الخاصة بهؤلاء المرضى مثل التشخيص المبكر والتوعية الاسرية والمجتمعية وعقد جلسات التأهيل للأطفال وبرنامج ما قبل المدرسة (التحصيل الأكاديمي) بالإضافة إلى برامج الترفيهية الأخرى.