لطالما كان بقاء وترعرع مستعمرات المستوطنين الأوروبيين البيض حول العالم مرهوناً بتفوقهم الديموغرافي على السكان الأصليين، فإذا لم يتمكن المستعمرون البيض من القضاء على أغلبية السكان الأصليين، فإن مصيرهم، بغض النظر عن طول فترة حكمهم، محتوم في نهاية الأمر.
فقد كان العامل الديموغرافي السبب الرئيس في استمرار المستعمرين البيض في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا في الاحتفاظ بسلطة الحكم، كما كان هو ذاته سبب تقويض حكم المستوطنين البيض في الجزائر وتونس وليبيا والمغرب وكينيا والكونغو وأنغولا وموزمبيق وروديسيا وناميبيا وجنوب إفريقيا. أما في أمريكا اللاتينية، فلم يكن بمقدور المستوطنين البيض إبادة معظم السكان الأصليين، مما أدى في النهاية إلى الاختلاط العرقي وتحول البيض إلى أقليات، مع احتفاظ البيض والمختلطين عرقيًا بسلطة الحكم حتى في بلدان أمريكا اللاتينية التي لديها أغلبية طفيفة من السكان الأصليين، كما هو الحال في بوليفيا وبيرو وغواتيمالا والإكوادور.
تُعدّ (إسرائيل) حالة مثيرة للاهتمام فيما بين مستعمرات المستوطنين البيض لأنها نجحت في إقامة أغلبية ديموغرافية من المستوطنين إلا أنها خسرتها فيما بعد. وكانت (إسرائيل) قد حوّلت المستعمرين اليهود إلى أغلبية من خلال التطهير العرقي الذي ارتكبته في عام 1948، وكانت قد ضمِنت بذلك لنفسها مستقبلًا استعماريًّا مقيمًا. ولكن غزوها واحتلالها لباقي الأراضي الفلسطينية في عام 1967، وهو ما أضاف ما يقارب من مليون فلسطيني تحت حكمها، أدى إلى تحوّل المستوطنين اليهود إلى أقلية في العقدين الماضيين.
وفي هذا السياق من تحوّل (إسرائيل) إلى حكم الأقلية اليهودية، اتضح أن مجموعة القوانين العنصرية التي وضعتها (إسرائيل) منذ عام 1948، غداة تحولها إلى أغلبية يهودية، لم تعد كافية، مما استلزم سن قانون الدولة القومية لعام 2018، الذي يضمن تعزيز الفوقية اليهودية داخل المستعمرة الاستيطانية بغض النظر عن عدد اليهود أو نسبتهم.
لكن فقدان المستوطنين اليهود لأغلبيتهم الديموغرافية أدى إلى صراع داخلي كبير فيما بينهم حول أفضل السبل للحفاظ على الفوقية اليهودية في ضوء انخفاض أعدادهم. وقد ظهر جناحان رئيسان ملتزمان بالتفوق العرقي اليهودي: الأول هو جناح أصولي ديني وعنصري صريح شبه فاشي تمثله الحكومة الإسرائيلية الحالية، والثاني هو جناح ديني عنصري بوجه علماني يقدم نفسه كشكل من أشكال الليبرالية المتسامحة، تمثله المعارضة.
يتفق كلا الجناحين على ضرورة تعزيز الفوقية العرقية اليهودية وعلى إنكار الحقوق المتساوية للفلسطينيين، وكلاهما مسكون بالهواجس ووضع الخطط حول كيفية التخلص من الفلسطينيين. أما مسألة التطهير العرقي -الذي تم إنجازه تاريخياً من قبل الجناح الديني العنصري الذي يتظاهر بالعلمانية- فقد أصبح الآن أيضاً نقطة نقاش رئيسة للأصوليين المتدينين العنصريين وشبه الفاشيين الذين صعدوا إلى السلطة في العقدين الماضيين.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الغاية من الإصلاحات القضائية التي يطالب بها الجناح الأصولي الحاكم وأنصاره هي تعزيز قدرته على طرد الفلسطينيين واضطهادهم. أما المعارضون لهذه الإصلاحات، الذين ينتمون إلى جناح اليهود الملتزمين أيضاً بالفوقية اليهودية ويدّعون "العلمانية" والليبرالية، فليسوا قلقين بشأن الفلسطينيين، بل يخشون أن تتطفل هذه الإصلاحات على حقوق الإسرائيليين اليهود "العلمانيين".
يُظهر الإحصاء السكاني الأخير في (إسرائيل) أن عدد اليهود يزيد قليلاً عن سبعة ملايين نسمة، ويبلغ عدد الفلسطينيين في الداخل المحتل أكثر من مليونين بقليل، مع ثلاثة ملايين آخرين يعيشون في الضفة الغربية وشرقي القدس، وأكثر من مليونين في قطاع غزة المحاصر من قبل (إسرائيل). وفي حين أن هذه الأرقام تظهر أغلبية فلسطينية طفيفة وإن كانت في تزايد مستمر، فإن تعداد اليهود في (إسرائيل) يستند إلى معايير لا يتفق عليها جميع الصهاينة.
لهذا السبب أصدر رئيس المنظمة الصهيونية الأمريكية، مورتون كلاين، مؤخراً طلباً لـ(إسرائيل) بالتخلي عن منهجها في تعريف اليهود في نصوص "قانون العودة" الإسرائيلي، لا سيما فيما يتعلق بالمستوطنين من الاتحاد السوفييتي السابق. ويصر بيان المنظمة الصهيونية الأمريكية على أن "قانون العودة"، بعد التعديلات التي طرأت عليه في عام 1970، قد يقود إلى "نزع سمة اليهودية" عن (إسرائيل).
وتؤكد المنظمة الصهيونية الأمريكية أن "الأغلبية اليهودية في (إسرائيل) تتقلص بمعدل 1 في المئة كل 3 سنوات"، بحيث "خلال الأعوام الثلاثين الماضية، تقلصت الأغلبية اليهودية في (إسرائيل) بنسبة 10 في المئة؛ والآن تقف نسبة اليهود عند 73.6 في المئة فقط، بعد أن كانت نسبتهم 84 في المئة". تستثني هذه الأرقام بالطبع الفلسطينيين في شرقي القدس والضفة الغربية وغزة، لكنها تشمل نصف مليون مهاجر يهودي سوفييتي لا يُعتبرون يهودا، لا من قبل الشرع اليهودي الديني (الهلخاه)، ولا "قانون العودة الإسرائيلي" قبل تعديله في عام 1970، ولا من قبل المنظمة الصهيونية الأمريكية. ما يعنيه ذلك هو أن عدد المستوطنين اليهود في (إسرائيل) حسب تقديرات المنظمة الصهيونية الأمريكية يبلغ 6.6 ملايين يهودي.
وقد أدى تناقص أعداد المستوطنين اليهود وتحولهم مرة أخرى لأقلية في فلسطين التاريخية إلى التوقع المنطقي بأن الاستعمار الاستيطاني اليهودي قد أصبح غير مضمون بل قابلاً للتقويض أيضاً.
في حالة الجزائر، تحقق تقويض الاستعمار الاستيطاني عندما منح المحررون الجزائريون، بعد حصولهم على الاستقلال، المساواة للأقلية من المستوطنين الفرنسيين (الذين كان عددهم يبلغ حوالي مليون شخص، ما شكّل تُسع عدد السكان) وأزالوا جميع امتيازاتهم الاستيطانية، وهو ما اعتبره المستوطنون مصيراً أسوأ من الموت، لذلك رفض المستعمرون المساواة ورحلوا إلى بلدهم الأم في الحال. أما في حالة روديسيا، فقد سارعت بريطانيا والولايات المتحدة في النصف الثاني من السبعينيات لمساعدة الأقلية من المستوطنين البيض وحماية امتيازاتهم خشية أن يلاقوا نفس مصير المستوطنين البرتغاليين في أنغولا وموزمبيق المجاورتين، الذين أيضاً فضّلوا الرحيل على المساواة، أو مصير مستوطني الجزائر.
وبخلاف المستعمرتين الاستيطانيتين البرتغاليتين اللتين طالب ثوارهما بالاستقلال التام والمساواة، كان الثوار الزيمبابويون المناهضون للاستعمار في روديسيا، والمتحالفون مع الطبقة الأفريقية الصغيرة المالكة للأراضي والبرجوازية الصغيرة، منفتحين دائماً على التسوية مع المستوطنين، وقد ظلوا يناشدون بريطانيا، بلد المستوطنين الأم، لمساعدتهم على الحصول على الاستقلال وتحقيق بعض أشكال المساواة للأفارقة الأصليين. وكان روبرت موغابي وغيره من قادة زيمبابوي قد وافقوا عن طيب خاطر على تسوية تحافظ على الامتيازات الاقتصادية الاستعمارية للمستوطنين البيض، بهدف الحصول على الاستقلال السياسي.
وقد تم تبني مثال روديسيا من قبل الإمبريالية العالمية على أنه المرجع الرئيس لإنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في عام 1994، عندما وافق حزب المؤتمر الوطني الأفريقي على صفقة مماثلة مع الولايات المتحدة والأوروبيين لإنهاء نظام الفصل العنصري. لكن بخلاف حالتي روديسيا وجنوب أفريقيا، لم تكن هذه حلولاً عرضتها القوى الإمبريالية تاريخياً على الفلسطينيين، حيث ظل الانطباع الإمبريالي السائد هو أن المستعمرة الاستيطانية اليهودية القائمة على أغلبية ديموغرافية من المستوطنين اليهود لا يمكن تقويضها.
رغم ذلك، فقد تغيّر الواقع الديموغرافي بشكل كبير منذ تسعينيات القرن الماضي، لدرجة أن منظمات حقوق الإنسان الليبرالية، التي كانت تاريخياً صهيونية الهوى دائماً، بدأت بوصم (إسرائيل) بدولة "الفصل العنصري" في السنوات القليلة الماضية. وفي غضون ذلك، بدأ بعض الصهاينة الليبراليين بالدعوة إلى، أو على الأقل بتوقع، "حل" الدولة الواحدة الذي يمكن من خلاله حماية الامتيازات الاستيطانية اليهودية. وبالنسبة إلى الصهاينة الليبراليين، يُعتبر "حل" الدولة الواحدة على غرار جنوب أفريقيا أو روديسيا (في فترة 1980 إلى 2000 على الأقل) حلاً جذّاباً لأنه سيحافظ على الفوقية الاقتصادية اليهودية الاستيطانية بشكل دائم، بينما يتنازل المستوطنون جزئياً فقط عن الفوقية السياسية اليهودية، أي سيتحولون إلى وضع يحاكي وضع المستوطنين البيض الجنوب أفريقيين لكن ليس وضع مستوطني الجزائر.
يشعر الصهاينة الملتزمون بالفوقية اليهودية من كلا الجناحين الأصوليون علناً والعلمانيون الزائفون (بما في ذلك أعضاء الأحزاب "العلمانية" مثل كاديما، والليكود.. إلخ)- بالرعب من احتمال فرض المساواة، وإن كانت اسمية وغير حقيقية، في إطار دولة واحدة، على الرغم من أن ذلك سوف يضمن لهم امتيازاتهم الاقتصادية الاستيطانية، ويدعون إلى ارتكاب "نكبة ثانية" بحق الفلسطينيين لتجنب مثل هذا المصير. ويشهد تضاعف هذه الدعوات العامة لتهجير الفلسطينيين وتكرارها من قبل شخصيات سياسية إسرائيلية رئيسة على أن الشعور باقتراب النهاية الوشيكة للمستعمرة الاستيطانية يطغى عليهم.
لقد دق هذا الوضع جرس الإنذار، ليس فقط بين المستوطنين اليهود، ولكن أيضاً بين مؤيديهم في المستعمرات الاستيطانية البيضاء الباقية حول العالم. وفي السنوات الأخيرة، لم يعد قادة إسرائيل يُخفون قلقهم الشديد على مصير مستعمرتهم الاستيطانية، وإن كانت ستبلغ عيدها المئوي أو حتى عيدها الثمانين. أما إطلاق التهديدات بنكبة جديدة فليس أكثر من مناورة يائسة لمستعمرة استيطانية غدت تعرف أن مصيرها محتوم، حتى لو استغرق الأمر بضع سنوات قبل الانهيار النهائي.
أما المهمة التي تواجه الفلسطينيين الآن فهي الاستعداد لمستقبل ما بعد (إسرائيل)، فهل سيكون مستقبلاً يمنح المساواة للجميع على غرار الحالة الجزائرية، أم مستقبلاً يحفظ الامتيازات الاقتصادية للمستوطنين على غرار جنوب أفريقيا؟
إذا تُرِك الأمر للبرجوازية الفلسطينية، التي رعت "حل الدولتين" واستسلام أوسلو، فيمكننا الجزم بأنها ستفرض على الشعب الفلسطيني تغييراً على غرار جنوب أفريقيا. فلطالما فضّل الأثرياء الفلسطينيون منذ بداية الاحتلال البريطاني (الذي رعى الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في تشرين الثاني/ نوفمبر- كانون الأول/ ديسمبر 1917) التعاون مع القوة الاستعمارية (حتى أن القليل منهم تعاون مع الصهاينة)، معتبرين بريطانيا حَكَماً محايداً. ومنذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، أصر معظم الأثرياء الفلسطينيين، الذين استند دعمهم لمنظمة التحرير الفلسطينية على تخفيف وتيرة مطالبها بالتحرير المناهض للاستعمار، والذين أصبحوا وسطاء بين قيادة منظمة التحرير وأنظمة الخليج العربي الثرية، على أن تكون الولايات المتحدة هي الحَكَم بين الفلسطينيين ومستعمريهم.
وشأنها شأن أقلية الروديسيين السود الأثرياء الذين دعموا البريطانيين كحَكَم فيما بينهم وبين المستوطنين البريطانيين البيض، لم تزل البرجوازية الفلسطينية حتى يومنا هذا تثمّن وتستثمر فقط في الحلول التي تفرضها الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، أما أن هذه "الحلول" هي ما أدت بالفلسطينيين منذ عام 1917 إلى ما هم عليه اليوم، فلم يؤثر في تقييم طبقة رجال الأعمال الفلسطينيين المستفيدين من التعاون مع الإمبريالية وأعوانها ومع (إسرائيل).
ولكن السؤال الذي يواجه الفلسطينيين اليوم ليس ما إذا كان سيتم تقويض (إسرائيل)، بل ما الذي سيحل محلها؟ هل ستسمح المقاومة الفلسطينية الصامدة بجميع أشكالها وفروعها للبرجوازية الفلسطينية بقبول حل إمبريالي واستعماري نيابة عن الشعب الفلسطيني؟ أم ستتمكن المقاومة من فرض أمر واقع مناهض للإمبريالية والاستعمار من خلال الإصرار على الاستقلال وفرض المساواة وإزالة كل الامتيازات السياسية والاقتصادية للمستوطنين؟
لا شك أن نهاية (إسرائيل) قادمة لا محالة، ولكن في ضوء الالتزام الإمبريالي العنيد بالحفاظ على الامتيازات الاستعمارية اليهودية وخضوع البرجوازية الفلسطينية للحلول الإمبريالية، فإن ضمان حقوق الفلسطينيين في المستقبل يبقى أمراً صعب المنال.