الموعد السنوي جاء. يحشد فيه إعلام السلطة الناس ما استطاع، قائلا لهم في كل مرة إنهم على موعد مع خطاب يصفه بأنه "تاريخي هام" لرئيسها في الأمم المتحدة. يحمل رئيس السلطة الثمانيني محمود عباس أوراقه، ويصعد على المنصة. محليًّا، يستمع إليه مؤيد لا يرى إلا بعينه، وآخر يتطلع إلى تغيير مساره، والحكم بين هذا وذاك هو لسان حاله.
"24 عاما مضت على توقيع اتفاق أوسلو الانتقالي الذي حدد إنهاء الاحتلال الإسرائيلي بعد خمس سنوات، ومنح الفلسطينيين الأمل في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وتحقيق (التسوية).. أين نحن اليوم من هذا الأمل؟"، هكذا يقر الرجل في أحدث خطاب له أمام الأمم المتحدة أول من أمس، بأن مسيرة التسوية التي سلكها منذ أكثر من عقدين، لم تفض إلا لسراب.
"لقد كان من المفترض أن يؤدي اتفاق أوسلو في العام 1993، إلى إنهاء الاحتلال وتحقيق استقلال دولة فلسطين، خلال خمس سنوات، إلا أن (إسرائيل) تنكرت للاتفاقات التي وقعت عليها"؛ وهذا ما قاله عباس خلال كلمته أمام الأمم المتحدة في 2016.
"لقد نصت اتفاقية أوسلو الانتقالية ومرفقاتها، والاتفاقيات اللاحقة والموقعة مع (إسرائيل)، على أن يتم تنفيذها خلال خمس سنوات، تنتهي في العام 1999 بالاستقلال التام لدولة فلسطين، وزوال الاحتلال الإسرائيلي عنها، إلا أن (إسرائيل)، قد توقفت عن استكمال عملية انسحاب قواتها"، هذا هو ذات الكلام لكن في خطابه في 2015. وهلم جرا، يعيد الرجل الإقرار بنفس الفشل كل سنة.
وعلى أرض الواقع، يعرف عباس ويحكي للعالم، أنه بين خطاب وآخر كل سنة، يتوسع الاستيطان على مرأى ومسمع من الجميع، وهو أول من يرى ويسمع.
"واصلت الحكومة الإسرائيلية بناء المستوطنات على أرض دولتنا المحتلة، منتهكة المواثيق والقرارات الدولية ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية"؛ يقول عباس في خطابه أول من أمس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
وفي خطابه في 2016م، يعيد الإقرار بأن (إسرائيل) "تنكرت للاتفاقات التي وقعت عليها، ولازالت تمعن في احتلالها، وتوسع نشاطها الاستيطاني".
وأيضًا في خطابه في 2015م، يعترف بأنه "منذ خطاب الرئيس أوباما في القاهرة عام 2009، والذي دعا فيه إلى وقف الاستيطان، زادت حكومة الاحتلال الاستيطان في الضفة والقدس بنسبة 20%". وهكذا يهيمن فشل التسوية على خطابات الرجل سنويا.
"لم يعد هناك مكان"
ما الذي يقدمه عباس للتغلب على هذا الفشل؟ إنه لا يعلن أنه سيخرج في مساره عن انتظار ما يسميه "سلاما" تارة، و"صفقة" تارة أخرى، من الولايات المتحدة الأمريكية و(إسرائيل)، وإن كان يقر بأن انتظاره عبر العقود جاء بالمزيد من الاستيطان، وتنفيذ مشاريع الأخيرة على الأرض.
لكن الولايات المتحدة التي ينتظر منها عباس "صفقة" هي ذاتها التي استخدمت حق النقض "الفيتو" نحو 36 مرة في مجلس الأمن، لحماية الاحتلال الإسرائيلي، حتى من مجرد اللوم.
ويبدو أن أقصى ما يقدمه عباس هو التلويح بالتوجه بمشاريع قرارات جديدة إلى الأمم المتحدة، لكن أليس هو بذاته الذي يؤكد أن كل القرارات الدولية صدرت دون أن تلتزم بها سلطات الاحتلال، متسائلا في خطابه أول من أمس: "عشرات القرارات صدرت عن مجلس الأمن، أعلى سلطة في العالم، تقول قرارات الضم غير قانونية، أين نذهب إذن؟".
وأليس هو الذي كرر الإقرار بأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي "فوق القانون"، وأنها تنتهك كل هذه القرارات؟ وهو الذي يقول في خطابه أول من أمس: "أذكركم بأن (إسرائيل) خرقت وتخرق القرارات الدولية منذ نشأتها، فهي التي خرقت بنود ميثاق الأمم المتحدة ولا تزال، والقرارات 181، 194، 242، و338، وصولا إلى قرار مجلس الأمن 2334 لعام 2016".
وعباس الذي يقول في خطابه الأخير: "لم يعد بإمكاننا الاستمرار كسلطة دون سلطة، وأن يستمر الاحتلال دون كلفة. نحن نقترب من هذه اللحظة. إذا لم يريدوا حل الدولتين وسلاما، فليعودوا ليستلموا مسؤولياتهم وتبعات هذه المسؤوليات"، لا تجد تلويحاته بحل السلطة أو سحب الاعتراف بـ(إسرائيل) تنفيذا على أرض الواقع.
بل إن اعتقادا يسود على نطاق واسع بأن رئيس السلطة يناقض نفسه، فهو الذي يصف وعد بلفور بالمشؤوم، بينما أعلن تنازله عن العيش في مدينته التي هجر منها صفد.
"إن حل الدولتين اليوم في خطر"؛ هكذا يقر بأن هدفه النهائي من مسار التسوية بإقامة دولة فلسطينية على ما يعرف بحدود 1967م، بات في مهب الريح. إنه يقول علنا: "لم يعد هناك مكان لدولة فلسطين".
يتساءل عباس: "أين نذهب؟". إنه يسرد نصوص القوانين والقرارات الدولية، لكن لماذا يستثني منها ما يتعلق بحق الشعب بالمقاومة بأشكالها كافة المكفولة أصلاً بهذه القوانين؟
لماذا لا يُذَكِّر رئيس السلطة العالم، بأن القرار الأممي رقم 3236 الصادر عام 1974 -على سبيل المثال لا الحصر- أعطى الشعب الفلسطيني الحق في استخدام كافة الوسائل لنيل حريته المتاحة؟
وإذا كان ثمة سؤال أيضًا يطرح نفسه، فهو عما إذا كان الشعب الفلسطيني على موعد مع خطاب يكرر فيه رئيس السلطة الإقرار بالفشل السنة المقبلة في الأمم المتحدة؟ أم أنه سيفاجئ الجميع بالتفكير خارج صندوق ما يوصف وطنيا بأنه وهم التسوية؟