يمسح نبيل المحتسب الغبار عن الكتب المكدسة داخل مكتبته في شارع الملك حسين وسط عمان، يشتمُّ منها رائحة الزمن الجميل وإرث والده الذي بدأه من القدس.
تعود قصة المكتبة إلى عام 1949 على يد محمد موسى المحتسب الذي بدأ حياته موزعاً للصحف والمجلات في مدينة يافا، قبل أن يدشن مكتبة لبيع الكتب، والصحف، والقرطاسية، والألعاب في المقدس وتحديدًا بباب العامود داخل أسوار البلدة القديمة، وكان اسمها حينها المكتبة العمومية.
رغب والد العم نبيل بعد ذلك في توسيع عمله التجاري في مجال النشر، فبدأ في عام 1955م باستيراد الكتب، وانتقل إلى خارج أسوار القدس، إلى منطقة باب الساهرة، وفتح مكتبة أكبر وأوسع من الأولى باسم مكتبة المنارة عام 1957 بشارع صلاح الدين، ومن ثم مكتبة التوزيع العربي سنة 1959، وعمل خلالها على استيراد الكتب من مصر، ولبنان، ووسع من نشاطه بافتتاح فرع في مصر باسم "مكتبة التوزيع العربي" لتوريد الكتب.
المؤسس محمد المحتسب كان يطمح إلى أكبر دار نشر في الوطن العربي، فبدأ بافتتاح مكتب في عمان عام 1966، وبعد نكسة يونيو/ حزيران عمل على تحويل المكتب إلى مكتبة رئيسة تضم منشورات معظم دور النشر في الوطن العربي وحملت اسم مكتبة المحتسب للنشر والتوزيع.
سلم المؤسس محمد الراية لابنه نبيل الذي كان أكثر أولاده التصاقًا به، ويلازمه دائمًا، حيث كان يدرس في المدرسة الإبراهيمية في القدس، ومن ثم يعود إلى المكتبة ينجز بين رفوفها واجباته المدرسية، ويذاكر دروسه مستعينًا بوالده وبما يوفره له من كتب إثرائية، ويعينه هو بدوره في أعمال الترتيب والتنظيم والتنظيف.
ولشدة تعلق نبيل بالكتب وشغفه الكبير بالقراءة، رافق والده في سفرياته مذ كان في الحادية عشرة من عمره إلى مصر التي طاف فيها بين دور النشر المصرية.
20 نسخة
ويروي العم نبيل تاريخ آخر فرع لمكتبة المحتسب التي انطلقت من القدس واستقرت أخيرًا في عمان: "انتقلنا إلى عمّان اضطرارًا بعد الاحتلال الإسرائيلي للقدس عام 1967م، بسبب مضايقات الاحتلال على استيراد الكتب التي كان والدي يستوردها من مصر ولبنان بعدما حصل على وكالات حصرية هناك حيث كانت الكتب تصل عبر مطار قلنديا ومن هناك تنقل إلى عمّان".
ويضيف المحتسب (69 عامًا) لـ"فلسطين": "بعد الاحتلال صارت الكتب تصل إلى عمان مباشرة، ومن ثم يقوم أبي بشحن كمية كبيرة من الكتب إلى القدس لكن مع صعوبات كثيرة بسبب إخضاع الكتب للتفتيش وتلف الكثير منها".
ويشير إلى أن الإقبال على كتب مكتبة المحتسب التي عرفت في البداية بمكتبة المنارة كان كبيرًا، غير أن المكتبة أغلقت أبوابها لأسباب تجارية في أعقاب اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987.
وعن الكتب الأكثر إقبالًا ومبيعاً في مكتبات والده في القدس، يذكر المحتسب أنه في أربعينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي، كان الإقبال على الكتب التاريخية والروايات والكتب الأدبية للروائيين الكبار مثل نجيب محفوظ، ومحمود العقاد، ومي زيادة، وجبران خليل جبران، وإحسان عبد القدوس.
ويلفت أن والده كان يحضر من كل كتاب يصدر 25 نسخة على الأقل دون اقتناء، لقناعته أنه لا حاجة للاحتفاظ بكتاب قرأه "على الرغم من عدم إتقانه للكتابة ولكنه يقرأ".
وللمفارقة، يذكر المحتسب أن المئات من إصدارات تلك الكتب رفض والده التصرف بها بعد الخروج من القدس وبقيت مرصوصة على أرفف المكتبة ومن ثم أتخم بها المستودع، "كان والدي يردد دائمًا بأن الكتاب لا قيمة له على الرف إذا لم يأتِ طالب ليقرأه".
آخر رمق
ويتحسر المحتسب على زمن القراءة الجميل، مبينًا أنه لم يستورد أي كتاب منذ عام 1990، ويعزو ذلك إلى تراجع الإقبال على شراء الكتب وقراءتها، وحتى أن طلبة المدارس لم يعودوا يلجؤون للكتب في إعداد أبحاثهم ويكتفون بالبحث عبر شبكة الإنترنت.
كما يأسف على المنظومة التعليمية التي لم تعد تنفذ مبادرات "سلة المدارس" حين كانت تفرض كل عام على كل فصل تكوين مكتبة خاصة به، وترسي عطاءات لشراء الكتب.
لم يجدد المحتسب أي شيء في مكتبته التي بقي أثاثها على حاله منذ زمن طويل، ويخشى أن يأتي اليوم الذي يضطر فيه إلى إغلاقها، "لو لم تكن لدي بضاعة لكنت أغلقت المكتبة منذ زمن، ولكني لا أعرف كيف أصرفها، هل أحرقها؟ لا يطاوعني قلبي، لأنها بدمي".
ويختم حديثه: "سأبقى في المكتبة حتى آخر رمق، أتمنى ألا تغلق وأنا حي، فكثير من المكتبات من حولي أغلقت أبوابها، فلم تعد تأتي بالربح، بل أخسر كل يوم، وأدفع إيجارها بمساعدة أبنائي، وأحفادي، وأشقائي".