إدراك الباحث سامي أبو شحادة لشوق آلاف اللاجئين منها المشتتين في بقاع الأرض المختلفة لرؤية مسقط رأسهم التي لطالما سمعوا عن المدينة الساحة، دفعه لتنظيم جولة افتراضية عبر شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك".
تمثلت الفكرة بتنظيم الأكاديمي والسياسي الفلسطيني ابن "عروس فلسطين" جولات ميدانية وبثها بشكل مباشر للمتابعين حول العالم الشغوفين برؤية معالم المدينة، استغرقت قرابة الساعة والنصف من ميناء المدينة التاريخي وثق خلالها مشاهد حيّة من يافا وحواريها وأزقة بلدتها القديمة، وصولًا إلى ميدان الساعة، وسوق الدير، مع إطلالة على حيّي المنشية والعجمي الشهيرين.
ويبين أبو شحادة لـ"فلسطين" أنه ينظم تلك الجولات برفقة فلسطينيين آخرين من أهل المدينة، يتبادلون خلالها الحديث في معلومات عن تاريخ المدينة التي تمثل عاصمة فلسطين الثقافية والاقتصادية والديمغرافية بدءًا من القرن التاسع عشر، وصولًا إلى واقع المدينة اليوم، ومن تبقى من سكانها الفلسطينيين بعد النكبة.
عروبة المدينة
ويرغب أبو شحادة أن يدرك الفلسطينيون الخسارة الكبيرة التي أصابتهم بفقدانهم مدينة "يافا" التي تمثّل كنزًا حضاريًا كبيرًا، وكيف حاول وما زال الاحتلال الإسرائيلي يحاول تغيير طابع المدينة الفلسطيني وتهويدها قدر الإمكان.
الجولات التي أطلق عليها أبو شحادة "يافا التي لنا" يرد بها التأكيد على عروبة المدينة الشامخة، رغم معاول التغيير التي غيرت معالم ميناء يافا التاريخي ليتحول من أهمّ وأكبر ميناء بحري في فلسطين قبل النكبة، إلى ملتقى لأصحاب اليخوت الأغنياء والمقاهي والمطاعم، مع بقاء عددٍ قليل من صيّادي السمك الفلسطينيين.
ويلفت إلى أن العديد من الدراسات الأثرية العالمية أثبتت أنّ "يافا واحدة من أقدم المدن في المنطقة، فعمرها يتجاوز خمسة آلاف سنة، وعثر فيها على آثار فرعونية، كما ذكرت في التوراة والإنجيل، وحتى في النقوش الفرعونية في الأهرامات".
وزاد بالقول: "بنيت يافا القديمة على أعلى تلّة على الشاطئ الفلسطيني بين حيفا في الشمال وغزة في الجنوب، فخصوبة الأراضي في محيطها جعلتها منطقة جاذبة للسكان منذ آلاف السنين، خاصة مناخها المعتدل ووجود الميناء، الذي جعلها عرضة للكثير من الغزاة وصولًا إلى الاحتلال الإسرائيلي".
وإذ يشير أبو شحادة إلى أنه على الرغم من "القرب الشديد بين البلدة القديمة والبحر، فإن مجرّد الحفر لثمانية وتسعة أمتار كان كفيلًا بالعثور على مياه عذبة".
برتقال يافا
ولا يمكن الحديث عن يافا دون الحديث عن البرتقال الذي اشتهرت به تاريخيًا، خاصةً بعد القرن التاسع عشر بعد أن خرج مزارعوها بنوعٍ جديد ذي قشرة سميكة " الشموطي"، الذي يتميز بأنه يبقى صالحًا لفترات طويلة، ما جعل هناك إمكانية لتصديره إلى أماكن بعيدة، لأنّه يتحمّل الشحن لعدّة أشهر.
ويقول أبو شحادة: "مع دخول المحركات البخارية إلى السفن ارتفعت وتيرة تصدير برتقال يافا إلى قارّات وعواصم كثيرة، وخاصةً لندن وباريس، بأسعار مضاعفة (تصل إلى عشرة أضعاف سعر البرتقال المعهود)".
وغطت بيارات البرتقال مساحات واسعة من مدينة يافا خاصة الطريق منها إلى اللد والرملة شرقًا، وإلى منطقة سيدنا علي شمالًا، حتى أنها كانت تصدر في ثلاثينيات القرن الماضي قرابة 400 مليون حبّة برتقال في الموسم الواحد.
ومع كثافة الإنتاج لجأ مزارعو البرتقال في يافا للاستعانة بعمالة من الخارج، (كسوريا ولبنان والمغرب والجزائر وأفغانستان ومصر)، ومن هنا اكتسبت بعض عائلات المدينة أسماءها، مثل المصري والشامي والمغربي والأفغاني.
إهمال وتزييف
ورغم كل محاولات التغيير والتزييف الإسرائيلية لتاريخ المدينة الفلسطينية إلا أن الأحجار الفلسطينية العتيقة التي ما زالت موجودة في مدخل البلدة القديمة للمدينة، وما تبقى من مبانيها تؤكد "فلسطينية" المدينة.
ولإدراك الاحتلال – وفق أبو شحادة- أن تلك الحجارة التراثية عقبة في طريق تزويره للتاريخ فإنه يمارس سياسة الإهمال وطمس المعالم بحق البلدة القديمة في المدينة، التي تعرض معظم مبانيها للهدم.
اقرأ المزيد: "عروس البحر" تخوض "صراع البقاء" أمام مخطط التهجير الأخير
وتوقف أبو شحادة أثناء جولاته أمام منزل عائلة الفنانة التشكيلية الفلسطينية تمام الأكحل، زوجة الفنان التشكيلي الفلسطيني الشهير إسماعيل شموط، الذي تحول إلى متحف يحمل اسم "إيلانا جور"، بعد أن استولت عليه فنّانة إسرائيلية تُدعى شوشانا فلنكشتاين.
أمّا حيّ المنشية الشهير، فلم يتبقَ من معالمه إلّا جامع حسن بيك، الذي بني في العصر العثماني، وخاض أهل يافا من الفلسطينيين معركة كبيرة مع سلطات الاحتلال تواصلت لعشرين عامًا أو يزيد، حتى تمكنوا من انتزاع حق ترميمه والصلاة فيه من جديد.
ولفت أبو شحادة إلى أن بناء أحياء لليهود في يافا بدأ عام 1882م برعاية بريطانية، في محاكاة للأحياء العربية الحديثة في يافا مثل العجمي والمنشية، مشيرًا إلى أنّها كانت نقطة الانطلاق نحو إنشاء "تل أبيب"، التي قامت على أراض كانت تتبع بلدية يافا.
ويتزود أبو شحادة بمعلوماته التاريخية خلال جولاته من عمله الأكاديمي والسياسي والرواية الشفوية التي استقاها من أجداده الذين كانوا يذكرون أسماء الشوارع والمحال التجارية، والحارات والأزقة وأصحابها قبل الاحتلال، فنقل كل ما عرفه منهم عبر جولاته في المدينة.