يعزز الاحتلال التحشيد في القدس بعد أسابيع قليلة من رباط الفلسطينيين في المدينة وبلدتها القديمة وأزقتها وشوارعها ومعابرها وجدار العنصرية المحاصر لها، وصولًا لباحات مسجدها الأقصى وكنسية القيامة، حينما قرر الاحتلال أن لا وجود لغير يهودي فيها، فكان المسيحي والمسلم تحت النار والاعتداء والمنع، وهذا تعزيز للاحتلال ببطشه وعربدته التي يخاف أن تهتز سيادته الوهمية فيها بحشود ورباط أصحاب الحق.
آلاف وعشرات آلاف النساء والأطفال والشيوخ والشباب من الحواجز وتحتها من الجدار وفوقه من كل مكان ومع ساعات الفجر يتعرضون للضرب والسحل والاعتقال والملاحقة والترهيب في محاولة لتقليص صورة أو بترها في صلاة الجمعة أو ليلة القدر.
ولكنها سرعان ما تنقل عاجل الأخبار بأن ربع مليون تمكنوا رغم الحصار ورغم منع ٧٠٪ من أهل الضفة الغربية من الوصول للقدس وكل أهالي قطاع غزة، ومئات الأوامر بالإبعاد عن المدينة المقدسة ومئات المعتقلين في صفوف المرابطين وغرامات باهظة وتوتير أمني وقتل على الهواء لتخويف الناس وإجراءات تعقيد وتنكيل على الحواجز وفي أزقة البلدة القديمة، كل ذلك من أجل أن تطمس الهوية ويعزز وهم السيادة، فكانت إرادة المرابطين وأهالي فلسطين تصفع تلك السياسة بربع مليون ويزيد في مشهد حب وانتماء وهوية وبقاء، هناك حيث المرواني والقبلي والصخرة والساحات، والأزقة والدرجات والأبواب.
حينها فهم الاحتلال أنه أمام فلسطيني جديد لا يترك الفكرة تحت الرصاص ولا يتم ترويضه بوهم السلام، لذلك ذهبت أفكاره ومخططاته للردع المضاعف وتحشيد المستوطنين في مسيرة الأعلام منعا للفناء والتحطيم المعنوي.
وها هي فكرة مسيرة الأعلام التقليدية قديما الاستثنائية حديثا، فلم يعد كل شيء كما كان ولم يعد المستوطن من يحدد السيادة أو الأحداث، فتعززت "لا" الفلسطينيين التي رفضت البوابات الإلكترونية ورفضت منع الرباط وصدت الاقتحامات وباتت تدخل إلى المعادلة جبهات وجبهات وتضع الملف على طاولة لطالما كانت فارغة من الأفعال لكثرة القول والخطاب.
المسيرة الاستفزازية يتم التسهيل لها بالتوصيل المجاني والتأمين والحشد والتحريض وتذليل كل العقبات أمامها كي تكون الصورة الأخيرة بعد صفقة ربع مليون جاهدوا ليرسموا صورة البقاء في القدس في رمضان، فكانت المسيرة هذه الأيام محاولة لاستجلاب السيادة التائهة وتعزيز ما كان سابقا بديهيا وبات تحت نار القلق من عقدة العقد الثامن الخاص بالزوال.
مسيرة يحاول ساستها أن يلغوا هتاف الضيف في المدينة وأعلام فلسطين تزينها ويستبدل ذلك بتهديد نتنياهو وخطاب التيه الأمني ومحاولة لإسكات صفارات إنذار يدركون أنها حقيقة تزعزع البقاء ويتمنون أنها حلم عابر أو أضغاث أحلام.
لم يعد الوضع التاريخي كما أرادوه وسكت عنه قريبون وبعيدون، ولم يعد شهر رمضان الذي يتباهون أنهم يسمحون هم بزيارة أصحاب الدار للمدينة فقط للصلاة والمغادرة، ولم تعد المسيرة التقليدية، فتحولت إلى مسيرة الفناء والخوف من السماء ومن الأرض، ولم يعد الجندي لا يقهر، ولا الفلسطيني مقهورا أو مشتتا، فلدينا خريطة أمنية رسمت ملامح المسيرة للفناء بجندي قُهر، والرباط للبقاء بفلسطيني جديد مصرّ.