جولة أخرى من المواجهة العسكرية خاضتها المقاومة الفلسطينية في غزة مع الاحتلال، بعد عدوان غاشم وجريمة غادرة ارتكب جيش الاحتلال فيها مجزرة بشعة أودت بحياة عدد من العائلات الفلسطينية، وهم نيام آمنين في بيوتهم فجر يوم الثلاثاء الماضي الموافق التاسع من شهر مايو الجاري في أماكن سكنية متفرقة من محافظات قطاع غزة.
جريمة الاحتلال الغادرة التي تواصلت على مدار خمسة أيام متتالية من القصف المدفعي والجوي للمنازل والوحدات السكنية أسفرت بحسب وزارة الصحة الفلسطينية عن استشهاد ثلاثة وثلاثين مواطنًا فلسطينيًّا، منهم ستة أطفال وثلاث نساء، وإصابة مائة وتسعين آخرين بجراح غالبيتهم من النساء والأطفال، وتدمير ألفين وواحد وأربعين وحدة سكنية بحسب بيان نشره المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، منها واحدًا وثلاثين منزلًا دمرت تدميرًا كليًا، ومائة وثمانية وعشرين وحدة سكنية باتت غير صالحة للسكن، إضافة إلى استهداف الاحتلال للبنى التحتية، وخطوط الكهرباء والمياه والصرف الصحي، والدفيئات والأراضي الزراعية، ومنع الصيد، وإغلاق المعابر، وتشديد الحصار طوال مدة العدوان، في انتهاك فاضح للقانون الدولي الإنساني، واستمرارًا لجرائم الاحتلال المتواصلة منذ خمسة وسبعين سنة مضت بحق الشعب الفلسطيني واللاجئين الفلسطينيين.
تتزامن جريمة الاحتلال وعدوانه على غزة، مع حلول الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة الفلسطينية، ولسان الحال أن الاحتلال ماضٍ في عدوانه ضد الفلسطينيين، وسط غطاء سياسي، ودعم عسكري واقتصادي لا محدود تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية لهذا الكيان الإجرامي منذ تهجير الشعب الفلسطيني، وإنشاء هذا الكيان فوق الأرض الفلسطينية عام ثمانية وأربعين.
اللافت في جريمة الاحتلال الأخيرة في غزة أنها تأتي ضمن سلسلة طويلة من المذابح التي ارتكبها كيان الاحتلال وأسفرت عن استشهاد أكثر من مائة ألف فلسطيني منذ النكبة وحتى يومنا هذا، بل إن هذه الجريمة تتزامن مع جرائم متواصلة في الضفة والقدس والداخل الفلسطيني المحتل، حيث أعدم الاحتلال بدم بارد مئة وعشرين فلسطينيًّا منذ مطلع العام الحالي، منهم أربعة فلسطينيين في الداخل الفلسطيني المحتل، وهي إشارة على دموية الكيان وإجرام المحتلين الصهاينة.
نظرة ثاقبة إلى جريمة الاحتلال الأخيرة في غزة، نجد أنها جاءت لاستعادة الردع الذي هشمته المقاومة الفلسطينية مرارًا وتكرارًا في جولات المواجهة السابقة ولا سيما معركة سيف القدس قبل عامين، حيث حاول نتنياهو ترميم صورته أمام جمهوره اليميني المتطرف، فالائتلاف اليميني الحاكم في كيان الاحتلال بدأ يتصدع في إثر فشله في مواجهة الأزمة السياسية الداخلية للأسبوع التاسع عشر على التوالي، في ظل تهديدات وزير الأمن القومي الصهيوني الأرعن "إيتمار بن غفير" بحل حكومة نتنياهو، حال عدم تبنيها "خطًا يمينيًا متطرفًا" ضد الفلسطينيين.
من جهة أخرى حاول نتنياهو الاستفراد بحركة الجهاد الإسلامي باستهداف قادتها العسكريين والتأكيد مرارًا أن المواجهة فقط مع "سرايا القدس"، وهي محاولات أفشلتها المقاومة الفلسطينية بوحدتي الكلمة والميدان في غرفة العمليات المشتركة، حيث نجحت المقاومة في غزة في امتصاص الضربة الأولى، وصد المواجهة تحت غطاء "غرفة العمليات المشتركة"، استخدمت فيها تكتيك "الصمت المرعب" لأكثر من ثلاثين ساعة، نجحت فيها بفرض الضبط التام للميدان، ثم تبدأ بإمطار العمق الصهيوني المحتل برشقات صاروخية عنيفة وصلت إلى أهدافها، وخرجت معها صور الدمار من تل أبيب وعسقلان لتنتزع صورة الانتصار التي حاول نتنياهو ترويجها وتقديمها لجمهوره المتعطش للدماء، ولسان الحال بأن غزة ومقاومتها ما زالت عصية على الانكسار، وهي قادرة على الثأر لرجالها وأبطالها في معركة "ثأر الأحرار".
النجاح الكبير الذي حققته المقاومة الفلسطينية في هذه الجولة، الذي تمثل في قدرتها على المواجهة العسكرية باستخدام عدد محدود من عتادها، وتكتيكاتها، ضمن سياسة التدرج في التصعيد، وإرباك الجبهة الداخلية الصهيونية، بالقدرة على تعطيل الحياة اليومية، ودفع مئات الآلاف من الصهاينة إلى البقاء في الملاجئ لأيام متواصلة، وإطلاق رشقات صاروخية وصلت أهدافها في عمق المستوطنات الجاثمة فوق تراب مدينة القدس المحتلة، وتهشيم منظومة القبة الحديدية، بتكتيكات أظهرت ضعفها، وحدّت من فاعليتها، حيث نجحت غالبية صواريخ المقاومة في اجتياز هذه القبة التي لطالما تفاخر بها الاحتلال.
نجاح المقاومة في اختراق منظومة القبة الحديدة دفع الاحتلال إلى تفعيل منظومة "مقلاع داوود" المخصصة للصواريخ الباليستية بعيدة المدى، والتي يبلغ تكلفة الصاروخ الدفاعي منها مليون دولار، وبالرغم من ذلك نجحت المقاومة بإحدى الرشقات الصاروخية في تجاوز هذه المنظومة المتقدمة، وأظهرت دمارًا واسعًا جنوب تل أبيب، وهي إشارة واضحة على تطور قدرات المقاومة بالرغم من الملاحقة والحصار، ونجاحها في مضاعفة كلفة الاحتلال، الذي باتت خسائره اليومية بحسب القناة 13 العبرية تُقدر بنحو خمسة وخمسين مليون دولار مع كل يوم مواجهة عسكرية يخوضها مع المقاومة في غزة.
أيضًا ربما كان لافتًا في هذه الجولة من الصراع وحدة الميدان الإعلامي في مواجهة الاحتلال، إذ نجحت المقاومة بتصريحات قادتها، وإصدار بياناتها الإعلامية، ومؤازرة مؤيديها وناشطيها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في إفشال محاولات الاحتلال وأذنابه المتكررة لشق الصف الفلسطيني، وبث الفرقة بين أنصار قوى المقاومة، وهي نقطة تُسجَّل لمصلحة المقاومة في هذه الجولة.
ختامًا وإذ نترجم على أرواح الشهداء الأبطال، ونتمنى الشفاء العاجل للجرحى، والصبر للمكلومين ممن فقدوا بيوتهم نتيجة عدوان الاحتلالـ فإننا نرى بأن تزامن هذه المواجهة مع ذكرى النكبة إنما يؤكد فشل الاحتلال في استئصال الشعب الفلسطيني من أرضه، وأن الصراع سيتواصل في منحنى متصاعد في السنوات المقبلة، حتى ينجح أبطال شعبنا قريبًا بإذن الله من تحرير الأرض والمقدسات، ومحاسبة الصهاينة على جرائمهم البشعة، وتطهير الأرض الفلسطينية من دنس الاحتلال.