على مدار أيام العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تحرك الشاب فادي خليل من شمال قطاع غزة بواسطة سيارة ممتلئة بالطرود الغذائية ووجبات الطعام؛ متجولًا بين بيوت المتضررين والنازحين من العدوان، وعائلات العمال الذين يعتمدون على الدخل اليومي والأسر المتعففة و"تقطعت بهم السبل"، ليعود لمنزله قبل حلول المساء وقد ارتسمت فرحة "جبر الخواطر" على أطفال تلك العائلات ونسائهم وحتى رجالهم.
في شوارع كانت شبه خالية من المارة سكنت فيها الأصوات إلا من أصوات محركات الطائرات الحربية بدون طيار الإسرائيلية التي لم تفارق سماء القطاع مواصلة القصف والقتل، جاب خليل صاحب مبادرة تكية "الشمال" الخيرية حارات ومخيمات محافظة الشمال يصل لكل مكان طاله الدمار ليوصل مئات الطرود والأطباق لكل بيتٍ على حدة، وهو غير بعيد أن تصله الصواريخ الإسرائيلية فقد تعرض في الحروب العدوانية السابقة لاستهدافات عديدة كان خلالها قريبًا من الموت.
تكية "خيرية"
داخل مبنى صغير مخصص لـ "التكية الخيرية" كان خليل يجتمع مع نحو خمسة متطوعين في الصباح الباكر في كل يوم في العدوان ويزيد عددهم في الأيام العادية، يبدؤون بتقطيع الخضار واللحوم والأرز وطهيها على أوانٍ كبيرة، ثم تغليفها والانطلاق في جولة يومية تستغرق عدة ساعات، يتهددهم الموت، وفريق منهم يتولى شراء وتجهيز الظروف الغذائية.
"في الأيام الماضية وزعنا نحو 230 طردًا غذائيًا سريعًا يتضمن الطرد الواحد معلبات، وأجبان وطعام إفطار وأرز وزيت طهي (سيرج)، إضافة إلى توزيع مئات الأطباق لوجبة الغداء من الأرز واللحوم أو الدجاج أو أسماك حسب ما يتوفر لدينا من تبرعات ومساعدات لأهل الخير" يقول خليل لصحيفة "فلسطين" قبل انطلاقه في جولة جديدة.
تصل الطرود للناس جاهزة، لكن خلفها معاناة وتعب وإرهاق لم يخلو من حديث خليل: "فكرة أنك تخرج من بيتك في أثناء العدوان صعبة، فالأغراض نشتريها من محال تبعد عنا مسافة تسعة كيلو مترات، نسمع أصوات القصف القريب منا في جولتنا، الأمر مش بسيط ويحتاج تعب وعناء".
قبل أن تغرب الشمس، كان خليل يعود إلى بيته وعائلته ويخلد للنوم ينفض الإرهاق والتعب ليستعد ليوم جديد وجولة لتوزيع حليب أطفال وأدوية في صباح اليوم التالي، يردف بنبرة رضا وارتياح: "أي شيء تقدمه لإنسان مستهدف ومشرد ولو بسيط يعطيه دفعة معنوية، وكذلك حال الأسر المتعفف، التي يجلس فيها الآباء مكسوري الخاطر أمام احتياجات أبنائهم، فنجبر تلك الخواطر، وهذا ما ترسمه ملامحهم ورسائل شكرهم لنا، ما يدفعنا للاستمرار".
وبالرغم من أن لدى التكية تسعة أفراد من المتطوعين، إلا أن خليل خفّض عملهم للنصف خوفًا من حدوث أي مكروه مقتصرًا على وجوده بمساعدة سائق وطباخ واثنين من المساعدين الآخرين في التغليف والتوزيع، خاصة أنهم تعرضوا لاستهدافات سابقة تستحضر ذاكرته آخرها: "كنا نوزع خلال عدوان مايو/ أيار 2021 في منطقة بيت حانون، فسقط صاروخ إسرائيلي على بعد أمتار منا ونجونا بأعجوبة".
مبادرة "لنكن معهم"
في مدينة غزة، أطلق زكي مدوخ صاحب مبادرات "المهندس الخيرية" مبادرة لـ "نكن معهم"، التي تهدف لتوفير طرود غذائية وصحية وأدوية لأصحاب البيوت المدمرة ومن حولها من المتضررين.
يقول مدوخ لصحيفة "فلسطين": "هدفنا من المبادرة الوقوف بجانب أبناء الشعب الفلسطيني في أثناء العدوان الإسرائيلي، لتعزيز أواصر التكاتف فيما بيننا لتضميد جراح أولئك الناس، ربما تكون ما نقدمه مساهمات بسيطة أمام حجم ما تعرضوا له، لكن واجبنا الوطني ودافعنا الديني يحتم علينا التحرك بالرغم من صعوبة الأوضاع والقصف".
بدأت المبادرة صباح أمس، عبر توفير وجبات غذائية سريعة للعائلات المتضررة، الهدف منها "التعبير عن التضامن والوقوف بجانبهم تعزيزًا لصمودها" وكرسالة لأبناء الشعب حول ضرورة التكاتف والدفع لاستنساخ هذه التجارب.
استشارات طبية مجانية
في أثناء العدوان تنشط مبادرات فردية وجماعية إغاثية عديدة، عائلية أو مؤسساتية، لتقديم خدمات علاجية مجانية، عائلة "الكحلوت" كانت من بين العائلات التي نشرت قائمة بأسماء أطباء من العائلة بتخصصات النساء والولادة وأمراض الصدرية وجراحة الأطفال، والأنف والحنجرة، والمخ والأعصاب، والعناية المركزة ومناظير الجهاز الهضمي والباطنة وأمراض الكلى والمسالك البولية، ونشرت أسماءهم وأرقام هواتفهم لتقديم استشارات مجانية للمواطنين.
يقول عميد العائلة د. عدنان الكحلوت لصحيفة "فلسطين": إن "المبادرة قدمتها العائلة في هذه الظروف الصعبة، في ظل حاجة الناس الأساسية للدعم النفسي والاستشارات الطبية، فعممنا أرقام أطبائنا على صفحة العائلة على "فيسبوك".
وأضاف: "قمنا بالتواصل قبل إطلاق المبادرة مع جميع أطباء العائلة، والجميع رحب بالفكرة ثم أطلقناها للناس ولاقت صدًى كبيرًا، فيوميًا نتلقى عشرات الاستفسارات على صفحتنا، ويتصل مئات الناس بالأطباء الذين يقومون بتقديم الاستشارات الطبية"، عادًّا ذلك جزءًا من الواجب الديني والوطني في هذه الفترة الصعبة، لدفع الناس للاقتداء بها من العائلات الأخرى.
وتابع: "بلا شك هناك عائلات بها كفاءات علمية عديدة، يمكن أن تخدم أبناء شعبها في هذا الوقت، من علماء وأصحاب تخصصات".
لم تقتصر الحملة على الاستشارة الطبية، فطبيب النساء والولادة صلاح الكحلوت أجرى عملية ولادة في مستشفى أصدقاء المريض، لحالة حولت له عن طريق المبادرة.
علاج مجاني
وبنفس الطريقة، أعلنت جمعية العودة الصحية والمجتمعية في قطاع غزة عن تقديم خدماتها الطبية مجانًا وفتح أبواب مستشفياتها لإجراء العمليات واستقبال مصابي العدوان الإسرائيلي.
وتضمنت الخدمات الاستقبال والطوارئ والطب العام في مرافقها المنتشرة في بلدتي بيت حانون وبيت لاهيا ومعسكر جباليا شمال القطاع وبمدينة غزة وبمركزها بمنطقة "بني سهيلا" بمحافظة خان يونس إضافة إلى مركزها بمحافظة رفح.
وأعلنت الجمعية عن حالة الطوارئ وفتح أبواب مستشفى "العودة" بمخيم جباليا والنصيرات التي عملت على مدار الساعة لاستقبال الناس والمصابين والمرضى، في حين قدمت مراكزها المنتشرة في أنحاء القطاع خدمات الرعاية الأولية والطب العام واستقبال الطوارئ مجانًا وتوفير العلاج والتحاليل أيضًا مجانًا.
ونشرت الجمعية عناوين المراكز الطبية ومستشفياتها للتسهيل على المواطنين التوجه إليها إضافة إلى أرقام تواصل، مؤكدة أن ذلك بالتعاون مع وزارة الصحة للوقوف بجانبها وبجانب الشعب الفلسطيني في هذا الظرف الحساس، بالرغم من صعوبات واجهتها تتعلق بتقديمها الخدمات والأدوية من مخزونها.