كأنَّ شيئًا يسحبه نحو الأسفل وقد وقع بين رمال متحركة، وأحاطت به الدنيا من اتجاهاتها الأربعة، كان يتقلب بين الردم ويشعر بارتطام الحجارة في جسده، رأى توهجًا كبيرًا ووميضًا أحمر سرعان ما تلاشى على وقع اهتزاز البيت مرات أخرى، انقطع التيار الكهربائي، وافترش الدخان المنزل، وأصبح المكان حالك السواد.
لثوانٍ لم يرَ هادي خليل البهتيني (21 عامًا) إلا سوادًا حالكًا، صوته بالكاد يستطيع المناداة على والده وإخوته، استجمع قوة أحباله الصوتية مرة أخرى وواصل المناداة، يتحسس الأرض بحثًا عن هاتفه قبل أن يتناوله ويشعل ضوءه لحظة تهاوي البيت بهم فجر الثلاثاء التاسع من مايو/ أيار الجاري في إثر قصف إسرائيلي غادر بلا سابق إنذار استهدف اغتيال والده خليل البهتيني.
حريق مشتعل
يتباطأ المشهد في عيني هادي، يطل على الحدث من نافذة حزينة ترسمها ملامحه الباهتة: "كنت نائمًا وبجواري زوجتي في الطابق العلوي، ووالدي بالطابق السفلي، نامت بجواره شقيقتي هاجر (5 سنوات)، عندما أشعلت الهاتف كانت الرؤية معدومة بسبب الدخان والردم واشتعال الحريق ناحية مدخل البيت، وجدت شقيقي عزيز (17 عامًا) أمامي".
ما زال ينتشل بقية التفاصيل من زحام الذاكرة لصحيفة "فلسطين": "رأينا شقيقتي سارة (15 عامًا) وقد أصبحت غرفتها في باطن الأرض، كانت متشبثة بطرف الخزانة وتصرخ من الذعر، فاستطعنا سحبها، لم نرَ غرفة أبي فقد ابتلعتها الأرض، كنا نبحث عنه".
بنفس الوقت صرخ الشاب المذعور تجاه الجيران يطلب المساعدة عندما وصل إلى باب المنزل وكانوا خائفين لأن السماء تعج بطائرات الاستطلاع، لكن بدأ بعضهم في جلب دلاء مياه لإطفاء الحريق إلى أن وصلت طواقم الدفاع المدني بعد قرابة ربع ساعة من الحدث".
يحاول هادي التماسك، أخذ نفسًا عميقًا، يحرك بقية المشهد: "أخرجوا أشلاء أبي (خليل البهتيني) وكانت في حضنه أختي (هاجر)، أمي أيضًا استشهدت، ونجت شقيقتي ندى (13 عامًا)، شاءت الأقدار أن تحميها أريكة من الموت رغم أن سقف المنزل سقط عليها لكنها لم تصب بأذى".
تتلقف ذاكرته آخر مشهد: "نجا أخي محمد (16 عامًا) لم أتوقع أن يعيش، أو لم نتوقع أن نعيش كلنا، البيت سُوّي بالأرض وخرجنا نحن الإخوة الخمسة (هادي، عزيز، محمد، سارة، ندى) من بين الردم والركام، كان محمد عالقًا في النافذة ورأيته ممتلئا بالغبار والدخان".
إضافة لأبنائه الناجين الخمسة من القصف المميت، لدى الشهيد البهتيني ابنتان متزوجتان لين (19 عاما) وهديل (18 عامًا)، استيقظتا من منزليهما على خبر الفقد والمجزرة التي خطط الاحتلال أن تخطف كل عائلتها، لكن العناية الإلهية حمت بقية إخوتهما.
هاجر "روح" والدها
أبت هاجر إلا أن ترحل مع والدها، فكان يصفها بـ "روحه"، تقفز أمام عيني نجله مشاهد من هذا الحب: "أبي شديد السرية والتحركات الأمنية، عاد للبيت في تلك الليلة لشدة تعلقه بأختي هاجر فنامت بقربه، كانت صاحبة صوت عذب كوالدي ودائما تنشد له، وينشد لها، كنت أرافقه عندما يذهب لزيارتها في روضتها".
الحزن يملأ قلبه ويحتل عينيه: "أبي حنون مهما وصفته فلن أوافيه حقه، جبل شامخ، استشهادهم وسام شرف لنا أن الله اصطفاهم، كنا لا نراه إلا في فترات قليلة ربما لم نره إلا في رمضان مرة، وفي العيد مرة وذهب وزار إخوته وشقيقاته".
اقرأ أيضاً: الغرفة المشتركة: عملية "ثأر الأحرار" ردًّا على اغتيال قادة السرايا
خليل البهتيني ابن (44 عامًا) ينادونه في عائلته يا "حج" كونه أدى فريضة الحج، يعتبره شقيقه عبد الكريم (30 عامًا) الأب لهم، ويقول لصحيفة "فلسطين" بكلمات يرثي فيها فقد شقيقه: "كان قدوتنا، يحثنا على الصلاة، يدلنا على طريق الخير، سخي في الكرم والتصدق ويحفزنا على ذلك، صاحب صوت ندي في الصلاة يؤم المصلين بالمسجد".
في حي التفاح شرق مدينة غزة، ترعرع البهتيني منذ طفولته وشارك في انتفاضة الحجارة، واعتقل في سن مبكرة، وفي ريعان شبابه شارك في صد الاجتياحات الإسرائيلية لشرقي غزة، استشهد شقيقه محمد عام 2006 في أثناء التصدي لاجتياح إسرائيلي لحي "التفاح".
لم تضع طائرات الاحتلال عينها على البهتيني خلال هذه المعركة، بل منذ سنوات عديدة وهي تحاول قتله، لكنه نجا من كل المحاولات السابقة، يتوقف شقيقه عند أبرزها عام 2014: "استهدفوا شقة سكنية كان يوجد فيها، اعتقدنا أنه استشهد وبينما كنا نستعد لنصب بيت العزاء جاءنا فانقلب الحزنُ فرحًا".
"مختار العائلة"
ينتفض الألم من بين ثنايا صوته: "كنت أتوقع استشهاده لكني لم أفكر أن تكون الصدمة بهذا القدر، كنا نسميه مختار العائلة رغم وجود مختار، لدوره الكبير في إصلاح كل المشكلات المستعصية، له احترام فكلمته لها وقع كبير على أي شخص، ولا يغلق بابه أمام أي سائل".
وللشهيد إسهامات إعلامية عديدة، وبصمات عسكرية، ويحرص على الوحدة فشكلت منهجا في حياته، كان ممثلا لسرايا القدس في غرفة العمليات المشتركة للفصائل خلفًا للشهيد تيسير الجعبري، وكُلف مؤخراً بقيادة المنطقة الشمالية.
نامت "هاجر" في دفء وأمن والدها، لم تقوَ الطفلة على غيابه، فنادته لتفرح معه بشهادة إتمامها البستان بتقدير "ممتاز جدًا" والتقطت صورة تذكارية وثقت فرحتها، وحينما تساقطت الصواريخ في لحظة قدرٍ، اختطفت هاجر من الدنيا التي لم تعش فيها طفولتها، وصعدت بشهادة "البستان" للسماء.
في وقت متزامن ارتكبت (إسرائيل) جرائم إبادة ومجازر بحق عائلات فلسطينية أخرى، عندما تهاوت عليهم الصواريخ وهم نائمون، قتلت الأطفال والنساء، وأرعبت الجيران، لتبقى هذه المجازر شاهدة على جرائم حرب ستبقى عالقة في ذاكرة الناجين.