أكلَ الشَوقُ جسده القَوِي، وأذَابَ صَلابَتِه، ثَلاثَةَ عَشَرْ عَامًا مِنْ البُعدِ والفُرَاق، وقَفَ الشهيد جهاد محمد سعيد القدومي (48عاما) على أعتَابِ آخر مِحَطَةٍ قبلَ الوصولِ إلى نُقْطَةِ الأمَل، لرؤية عائلته على الحدود الأردنية العراقية بعد أن حاول مراراً وتكراراً لقاءهم، بِضعَةُ أمتَارٍ ومسَافَة قَصِيرَة فصلته عن أبنائه وزوجته، كانت هي ما تَبَقى له لإنِهَاء مَسِيرَة المُعَانَاة طَوَال تِلكَ السِنِين، ولكن اللقاء الذي رتبَّ له لم يتحقق نتيجة التعقيدات الأمنية على تلك الحدود.
الشهيد جهاد (من بلدة بيت وزن غرب مدينة نابلس شمال الضفة الغربية المحتلة)، نال الشهادة على أعتاب القدس أثناء محاولته المرور عبر حاجز قلنديا ظهر الثلاثاء 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016م، بعد أن أعدمه جنود الاحتلال وتركوه ينزف حتى ارتقت روحه، حكايةٌ فيها من العذاب ما فيها فهو لم ير أولاده وزوجته لمدة ثلاثة عشر عاماً؛ رغم قيامه بمحاولاتٍ عديدة لأجل ذلك.
كان جهاد خلوقاً، صاحبُ دِين، أنهى الثانوية العامة بمحافظة نابلس، ثم التحق بجامعة بيرزيت في الانتفاضة الفلسطينية الأولى بقسم الرياضة، ولكن بسبب مشاركته بفعاليات الانتفاضة اعتقله الاحتلال إدارياً عدة مرات، وأمام ذلك قرر السفر خارج فلسطين.
درس جهاد الحقوق في جامعة بيروت اللبنانية، وعين أمين سر اتحاد الطلبة الفلسطينيين، وبعد ذلك انتقل للعمل في العراق وتزوج امرأةً عراقية أنجب منها ثلاثة أبناء "ولدان، وبنت"، كان في العراق مدرباً كبيراً في كمال الأجسام، عينه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين عضواً في اللجنة الأولمبية العراقية إلى حين ما سقطت حكومته بعد احتلال أمريكا للعراق عام 2003م .
بهدوءٍ تتسلل الكلمات الحزينة من شقيقه جمال خلال حديثه بعد أن أذابها الألم، فيبدأ بسرد أصعب محطةٍ أليمة في حياة جهاد عثر عليها في السطر الأول من فصل الحنين، ففي لحظة سقوط الحكومة العراقية عام 2003، وقتها قرر جهاد ترك زوجته وأولاده الثلاثة هناك لبعض الوقت، حتى يتمكن من إعادة والدته التي مكثت معهم هناك إلى الضفة الغربية خوفاً عليها من الحرب التي اشتعلت في العراق.
على أطلال الشوق
كـــحبلٍ متين تشده الأحزان إلى تلك اللحظة، فبعد أن أوصل ولادته إلى الضفة، وما أن قرر العودة إلى العراق منعته الحكومة الأردنية من الحصول على تأشيرة السفر، بسبب تبدل الحكومتين السابقة والجديدة في العراق؛ ما زال يصف تلك المعاناة في حديثه مع صحيفة "فلسطين": "جهاد حاول أن يرسل توكيلاً لزوجته عدة مرات وآلت تلك المحاولات للفشل، لأنه يجب أن يكون في العراق، كي يُوقّع على إجراءات قدوم عائلته".
يسترسل وصف تلك المتاعب:
- انتظر جهاد 13 عاما ظل خلالها بعيداً عن زوجته وأولاده، لم يستطع رؤيتهم ولو مرة واحدة طوال هذه المدة.
"كان الأمر صعباً أن نوصل معاملات ورقية إلى مدينة الموصل في العراق".. قال تلك الكلمات بنبرة صوتٍ بالكاد كان مسموعاً.
ذكريات مؤلمة ومنعطفات صعبة، تعود بجمال للحديث عن أكثر اللحظات التي انتظروها معاً بعدما فشلت جميع محاولات إحضار جهاد لعائلته من العراق إلى فلسطين، فقرر قبل سنواتٍ أن يأتي بهم عبر الحدود الأردنية العراقية، فحددوا يوماً يخرج جهاد من الضفة إلى الأردن، على أن تصل زوجته إلى الحدود العراقية مع الأردن.
كان اليوم الذي سبقه طويلاً، وكأن الدقائق تمر ببطء، انتظر جهاد بلهفة انقشاع الظلام ورؤية خيوط شمس الصباح، انتهى الأمر ومرت تلك الدقائق بطيئة؛ وحينما حلَّ الصباح بنوره، ذهبوا لإحضار عائلته الصغيرة، كان بالنسبة له يوماً من أسعد الأيام، فرؤية أولاده وزوجته هو أقصى ما تمنى.
وأمام لوعة الشوق ومرارة البعد وصلوا إلى الحدود الأردنية العراقية من ناحية الجانب الأردني، كذلك وصلت زوجته وأولاده إلى هناك من ناحية الجانب العراقي، لكن محاولة إدخالهم فشلت، فالجيش منعهم، كان الأمر صاعقاً بالنسبة له، لأنها كانت المحاولة الأخيرة في ذلك الوقت.
لم يملك جهاد سوى تبادل نظرات الشوق مع عائلته من بعيد، على سفوح جبال تلك الحدود، وأبناؤه يشاهدون كم غيّر الزمن في شكل والدهم الذي لم يحصلوا على الدفء بين ذراعيه، لأنه تركهم وأعمارهم تتراوح ما بين العام وثلاثة أعوام، وفي لحظة الوداع أرسل صدى صوته لعله يصل إلى زوجته على الضفة الأخرى من الحدود، وهو يوصيها: " دير بالك على الأولاد".
وكأن جمال يرسم في كلامه لوحة من الجراح، وهو يصف تلك اللحظة.. عندما فشل جهاد في رؤية أولاده وإدخالهم عبر الحدود الأردنية العراقية، سبب له ذلك انعكاسات نفسية لمدة أسبوعين وعاد بغصة في قلبه، وتأثرت حالته فيما بعد إلى لحظة الاستشهاد.
كغيمةٍ عابرة أمطرت غيث الوفاء، تخيم صفات شقيقه على حديثه؛ واصفاً جهاد أنه محب للعلاقات الاجتماعية، كان يتأمل أن يلتقي بأولاده، يتشوق لهم كثيراً، يحبه الجميع، كانت كل الصفات الحسنة موجودة فيه، طيب.. حنون لديه أصالة الطباع.
لا يزال يحكي عن تلك الميزات الشخصية في جهاد بأنه أحب والديه بشكل غير طبيعي؛ باراً بوالدته بشكلٍ أثار استغراب جميع إخوته؛ فكان يجلس معها طوال الوقت، يمشط شعرها وإلى الآن لم تعرف أنه استشهد لأنها كبيرة في السن ومتعلقة به، وعندما سألت عنه أخبروها أنه ذهب لإحضار زوجته وأولاده من العراق.
بارٌ بشكل عجيب
سرد الحكاية لم يتوقف، وهذه المرة يبدأ شقيقه الآخر نهاد تقليب دفتر الذكريات ليبدأ قص الفصل الأول من حكاية الغياب، عندما كان شقيقه رياضياً يمارسُ لعبة كمال الأجسام في الثمانينيات من القرن الماضي.
"جهاد كل مواقفه جميلة ومشرفة".. يقولها وهو حزين على رحيل من كان يدافع عنهم في الصغر والكبر.
وفي زحمة الشوق ومرارة الانتظار، كانت المحاولة النهائية أمام جهاد بعد عدم استطاعته رؤية أولاده عبر الأردن، هي التخطيط للسفر إلى تركيا والالتقاء بعائلته بعد غياب طويل، تمتزج المرارة بالكلام وهو يكمل الحديث: "القدر كان أقرب لجهاد من تلك الأمنية (..) الاحتلال حرمه من الفرصة الأخيرة التي كان ينوي جهاد فيها رؤية زوجته وأولاده الذين بدؤوا ترتيب إجراءات الخروج من الموصل إلى تركيا قبل أسبوع من استشهاده".
يمر شريط الذكريات أمام ناظريه، والحروف تتقطع إرباً أمام أخٍ كريم؛ فيقول: "كان جهاد فردا مميزا في العائلة، أحبه كل من عرفه، كان قوي الشخصية رياضي الجسم يحرص على المحافظة على ترابط العائلة، كرّس حياته لمحاولة لم شملهم والالتقاء بهم ولكن محاولته لم تنجح".
"لم أرَ شخصا يبر والدته مثل جهاد".. يتعجب نهاد من حرص شقيقه جهاد على الاعتناء بوالدته المقعدة.
"ماذا سنفعل الآن؟" .. تساؤل يطرحه حول مصير مجهول ينتظر أبناء أخيه، وهو يقول: "كانت فاجعة بالنسبة لهم رحيل جهاد بدون أن يراه أبناؤه، والآن أصبحت الأمور معقدة، فلن نستطيع إدخالهم إلى الضفة الغربية وإحضارهم من العراق، لأن الحكومة هناك تطلب توقيع ولي أمرهم".
من أعماق ذاكرته يستعيد بعض المشاهد، حينما كان جهاد يدافع عنهم وهم في المرحلة الإعدادية بشهامة أمام من يؤذيهم، لتنقله المواقف الجميلة إلى بداية التسعينيات، يزيد: "كنت أدرس في جامعة أردنية، وجاءني جهاد في زيارة سريعة حملت مفاجأة سعيدة لي خلال مروره من الأردن إلى العراق، في الوقت الذي قرر فيه الرحيل والغربة عن فلسطين".
قبل أسبوع من الرحيل والاستشهاد، اتصلت زوجته لتخبره بأنها تتم إجراءات الخروج من الموصل إلى المدينة العراقية الأخرى أربيل، ومنها إلى تركيا، "بدك تخرج معي؟" ..يسأل جهاد والده، الذي أبدى علامات من الفرح والسرور في رده " مش مشكلة بأطلع معك على تركيا ".
يصف نهاد أجواء البيت حينها: "كنا مسرورين لاقتراب لقاء جهاد بأولادهم، خاصة وأن الفراق سببَّ لهم آلاماً نفسية كبيرة؛ فرغم أننا عرضنا عليه الزواج هنا لكنه أبى وصبر طوال ثلاثة عشر عاما وعلاوةً على هذا لم يألُ جهداً في محاولة مقابلتهم؛ كان جهاد قليل الحديث؛ ولكن أي كلمة تخرج منه معبرة ولها معنى كبير".
يوم الاستشهاد
كانت عائلة القدومي على موعد مع نار الفراق، في آخر يوم قضاه جهاد بينهم حينما صلى فجر الثاني والعشرين من تشرين الثاني للعام 2016، وخرج باكراً إلى مدينة القدس، فقد كان يحب الصلاة في المسجد الأقصى كالعادة، وعلى حاجز قلنديا (جنوب مدينة رام الله على الطريق التي تصلها بمدينة القدس المحتلة) الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا.
يستكمل نهاد ذكر تفاصيل الجريمة: "اقترب جهاد من الحاجز حسب ما قال لنا شهود عيان كانوا متواجدين في المكان وأراد إخراج وثيقته الشخصية للجنود، وما أن وصل إلى المكان، أطلق عليه جنود الاحتلال الإسرائيلي النار بدون أي ذنب".
وبعد برهة من الوقت اتصل ضابط في المخابرات الإسرائيلية طالباً منه التوجه إلى أحد المواقع العسكرية بمحافظة طولكرم؛ وسأله:
- وين ساكنين، وأيش بتشتغلوا ؟
بدوره طرح نهاد عليه سؤاله بكل جرأة بعد أن أجاب على أسئلة الضابط ..
- لماذا قتلتم أخي؟ .. ما الذنب الذي ارتكبه؟..
كالعادة نسج رواية خيالية أن الجريمة ارتكبت بداعي محاولة تنفيذ عملية طعن، تلك التهمة الجاهزة والملفقة التي أصبحت مبرراً لأي جريمة إسرائيلية، ثم أتبع الكلام لذلك الضابط: "كيف يمكن لرجل عمره 48 عاما ولديه أسرة وأولاد وهو مغترب عنهم منذ 13 عاما أن ينفذ عملية طعن .. جهاد لديه تقارير طبية تثبت أنه مريض".
- هناك كاميرا وثقت الحدث..
حاول الضابط صاحب الجمجمة المتحجرة التي لا تعرف للإنسانية معنى، إرباك نهاد وخلط الأمور عليه، إلا أنه واصل فهو يدرك الحقيقة..
- إن كان كلامك صحيحًا فأرني صورة من تلك الكاميرا؟.
لينتهي الحوار أمام تعنت هذا الضابط الإسرائيلي الذي لم يملك سوى الصمت، فبادر نهاد هذه المرة الكلام: "نريد استلام جثة أخي جهاد كي نواريه الثرى.. أريد رؤيته"، لكن الضابط أنهى المقابلة معه بقوله: لن تستطيع رؤيته، عليكم بالتواصل مع الارتباط الفلسطيني ليتم التنسيق لاستلام جثة أخيك.
وبهذا تنتهي قصة نسجت من عذابات الشوق، ومرارة رحيل الشهيد جهاد القدومي على عائلته التي انتظرته 13 عاما، وكحال بقية الشهداء ينضم جهاد إلى 25 شهيدا فلسطينيا ما زال الاحتلال الإسرائيلي يحتجز جثامينهم في الثلاجات.