ما يحدث (أشبه بالمعجزة) ولا نبالغ في ذلك، أكبر قوة نووية في منطقة الشرق الأوسط، تركع أمام غزة، وتدعوا مواطنيها إلى البقاء في الملاجئ، وتعجز عن منع الهجمات الصاروخية المستمرة على الرغم من امتلاكها أنظمة دفاعية الأكثر تطورًا في العالم، وأكثر من ذلك أنها تستخدم أسرابًا من "الطائرات الحربية والمسيرة" للقضاء على التهديدات، وتنفذ عشرات الغارات والهجمات المركزة، لكن النتيجة استمرار إطلاق الصواريخ، والغريب أن غزة هي من تهدد حتى الآن، والعدو يجري عشرات الاتصالات (إقليميًّا ودوليًّا) لإنهاء جولة القتال الحالية.
تُرى هل يمكن لدولة في منطقة الشرق الأوسط أن تفعل ما فعلت غزة؟ وهل يمكن أن يصمد جيش عربي أو إسلامي مع العدو الإسرائيلي في أي مواجهة مثلما صمدت وتصمد غزة؟ طبعًا لا؛ وهذا ما يجعل كل "متابع وخبير" يغرق في حيرته وهو يرى فعل غزة بحثًا عن السر وراء ذلك، لأنه وبالمقاييس العسكرية لا يمكن لقوة متواضعة أن تصمد أمام هذه الترسانة الضخمة، سواء تحمُّل الضربات والهجمات الوحشية الفتاكة، أو القدرة على رد العدوان واستهداف جبهة العدو بهذا الشكل وبهذه الجرأة.
ليس هذا فحسب، فمن يتخيل أن تقوم هذه المقاومة بأسر جنود إسرائيليين والاحتفاظ بهم سنوات، وعزلهم عن العالم الخارجي بصورة لا يتخيلها عقل ضمن ترتيبات واحتياطات أمنية معقدة للغاية، فشلت أمامها جهود استخبارية مهولة لمحاولة معرفة مصيرهم أو التوصل لمكان وجودهم بغية تحريرهم من قبضة المقاومة، قام العدو وعلى مدار سنوات بتسخير جميع إمكانياته المتقدمة للبحث عنهم، واستخدم في سياق ذلك مقدراته (البشرية والتقنية والعسكرية) لكن اصطدمت هذه الجهود الاستخبارية بفشل ذريع، وحصدت نتائج صفرية.
والأهم من ذلك كله أن المقاومة في غزة تفرض نفسها في أي حراك سياسي، وتجلس في أي جولة "للتفاوض بندية" أمام الاحتلال من خلال الوسطاء، وفي كل جولة تفرض شروطها تحت النار، ولا تتراجع بأي صورة عن الشروط والمطالب على الرغم من جسامة العدوان، ووحشية العدو وبطشه بالأبرياء، وفي معظم الجولات لا توقف إطلاق الصواريخ إلا بعد موافقة العدو على هذه الشروط، لكن العدو وأمام انكساره وهزيمته يخرج للتباهي بأنه لم يلتزم بشيء، وفي حقيقة الأمر هو من يهرول للهدوء، لعدم قدرة جبهته على الصمود، وفشله في حسم المواجهة لصالحه بالضربة القاضية.
وحتى في هذه الجولة التي حاول من خلالها العدو توجيه ضربة مباغتة للمقاومة و(غدر بكوادرها) في ظل وقف إطلاق النار بعد جولة سابقة من التصعيد اندلعت على أثر استشهاد الأسير خضر عدنان، ظن العدو في بداية الأمر بأنه قادر على حسم هذه المعركة، وتحقيق النتائج في الضربة الأولى، وإنهاء الجولة في الساعات الأولى أو بعد مرور 24 أو 48 ساعة في أبعد تقدير، إلا أنه تفاجأ بصمود أسطوري من المقاومة "وبإرادة فولاذية"، وتحولت المعركة بشكل ملحوظ لصالح المقاومة تحت اسم (ثأر الأحرار)، فبدلًا من أن يستعيد العدو الردع في مواجهة المقاومة، انهار الردع تمامًا بعد أن استطاعت المقاومة توجيه مئات الصواريخ لجبهة العدو، والتي غطت جميع المستوطنات والمدن الكبرى دون أن تفلح منظومات الدفاع المتطورة في التصدي لمعظمها، وهددت المقاومة بالمزيد، إذا لم يتم الاستجابة لشروطها.