في ذهولٍ وصدمة، وقف الشاب محمد سعد أمام والدته حينما وصل إلى منزله عائدًا من زيارة بيت خطيبته دانية (20 عامًا)، يزحف القلق إلى قلبها وتحاصرها مخاوف حولتها لسؤال وجهته لنجلها: "ماخدين خطيبتك على المستشفى.. شو صاير؟"؛ وكأنَّه يعيشُ حلمًا، فقبل أقل من 15 دقيقة كان في بيتها، قبل أن يرتج هاتفه ويتلقى مكالمة هاتفية من والدها يخرجه من حلمه ويطلب منه التوجه نحو المشفى.
ركضًا تلاحقه المخاوف والقلق، عاد محمد لمنزل خطيبته القريب من منزله مرةً أخرى قبل ذهابه للمشفى، فوجده تغيّر تمامًا، الورود تتناثر على الأرض، غرفة نوم خطيبته يغطيها الردم والركام، البيت شوهته صواريخ الاحتلال في إثر استهداف منزل عائلة البهتيني الذي يجاور منزلها.
الساعة الثانية فجر أول من أمس، استيقظ علاء عدس والد دانية على وقع اهتزاز منزله وكأنَّ زلزالًا ضرب المنطقة، فتح عينيه ليجد نفسه تحرك من سريره على الأرض من شدة القصف الذي خلع باب غرفته كذلك، يفترش الغبار والدخان الذي حجب رؤيته لبيته بالكامل.
بقلب مذعور نادى على ابنتيه دانية وإيمان لكنهما لم تردا عليه، فتحول للمناداة على ابنه الوحيد من الذكور حمزة (13 عامًا) فأجابه والخوف يلتصق بصوته: "هيني يابا" وجاءه يتحسس جدران المنزل ويسقط بين الحجارة وملابسه تمتلئ بالغبار، في لحظة أدرك أن هناك أمرًا جللًا حدث، وبدآ يبحثان عن الشقيقتين.
"دخلت غرفتهن وكانتا تحت الركام بالكامل، رأيت أطراف جدائلهن فقط وبمساعدة الجيران أزلنا الركام، كانت دانية جثة هامدة بلا نفس، في حين كانت شقيقتها إيمان تتنفس".. لا تزال دمعته حائرة بين السقوط أو البقاء حبيسة جفنيه محاولًا التماسك وهو يروي لصحيفة "فلسطين" المشهد الذي وصفه بأنه كان أشبه بـ"يوم القيامة".
فرح تحول لمأتم
في المسجد، يسند خطيبها محمد ظهره إلى الحائط، وليته يستطيع حمل ثقل وجع الفقد عنه، ترسم عيناه الدامعتين جرح الوطن، وهو يمسك القرآن الكريم ويتلو آياته على جسد خطيبته "دانية" التي يلفها الكفن الأبيض، بدلًا من فستان الزفاف في عرسهما المقرر بعد شهرين، ليتحول الفرحُ إلى مأتم، في مشهد لم يخلو من أبيات (درويش): "هذا هو العرس الذي لا ينتهي (..) هذا هو العرسُ الفلسطيني، لا يصل الحبيبُ إلى الحبيبْ؛ إلا شهيدًا أو شريدًا".
يتباطأ المشهد الأخير أمام محمد، أخذ نفسًا عميقًا مليئًا بالألم وتحرك صوته محاولًا التماسك قبل بدء الحديث لـ"فلسطين": "كنت كأي عريس ينتظر فرحته، أخبرتُ دانية في زيارتي الأخيرة أنني حجزتُ صالة الفرح، اتفقنا على أن نختار أثاث غرفة النوم هذا الشهر، كان الفارق الزمني بين عودتي للبيت وتلقي خبر استشهادها 15 دقيقة، لم أتوقع ما حدث".
اقرأ أيضاً: تقرير "راسم" و"عايدة" ... فرحة عروسين فلسطينيين "مؤجلة"
غفت دانية التي تدرس بكالوريوس محاسبة، على أمل أن تستيقظ على غدٍ مشرق وحلم جديد، بإتمام فرحتها واستكمال دراستها الجامعية وهي تتخطى عامها الدراسي الثاني، في حين كانت شقيقتها في الصف الحادي عشر تتطلع إلى مستقبل مشرق.
وبالرغم من اعتيادهما على النوم في فرشتين منفصلتين في الغرفة نفسها، إلا أنهما نامتا على الفرشةِ ذاتها في تلك الليلة، لتغتال صواريخ الاحتلال حلمهما في لحظة هدوء وسكنية.
اغتيال الحلم
يثقل الفقد صوت والدهما: "دانية اتسمت بالهدوء والطاعة والرزانة وحبها لإسعاد من حولها، وكانت حافظة لأجزاء كبيرة من القرآن الكريم، وكنت أحفزها على ذلك بأن أرصد لها هدية إن أتمت حفظ أجزاء منه، وكان ذلك يشجعها على إتمام الحفظ في فترات قياسية، أما شقيقتها فكانت تفهم ما أحتاجه دون طلب".
قبل ثلاثة أيام خرجت العائلة في رحلة ترفيهية، وفيها حدثت إيمان والدها عن رؤيتها في المنام أنها "ترتدي فستانًا أبيضًا وتزف عروسًا" ابتسم والدها ممازحًا: "هذا الحلم لأختك دانية، هي الخاطبة وأنتِ صغيرة"، لكنه أعرب عن أمنيته أن يراها عروسًا: "إن شاء الله بتكبري وبنفرح فيكِ".
وسادةٌ ممزوجة ببقعة دماء كبيرة لإحدى الشقيقتين، ورود متناثرة وهدايا، وأدوات رسم كانت إيمان تشتريها وتنمي بها موهبتها، وآثار دماء وبيت طال الدمار كل جزء فيه، وصورةٌ تذكارية جمعت محمد بخطيبته دانية، كلها بقيت شاهدة على اغتيال الاحتلال حلم عروس لم تكتمل فرحتها، في جريمة استشهد فيها جارهم، خليل البهتيني (44 عامًا) وزوجته ليلى (42 عامًا) وطفلتهما هاجر (4 سنوات).