يعكف مجموعة من المهندسين في غزة على تصميم مجسمات من الكرتون المقوّى وبعض المواد البلاستيكية لأبنية أثرية يزيد عمرها على قرن من الزمان، تقع داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وتطابق النماذج التي ينفذها المهندسون في شكلها الخارجي الشكل الأصلي للمباني الأثرية، ويرفقون المجسمات بلوحة معلوماتية تُبين ماهيّته وتاريخه.
يقول المهندس المعماري حسين نعيم: إن فضوله للتعرف على الشكل المعماري للمباني الأثرية والتاريخية في فلسطين، دفعه لرسمها إلكترونيًّا كما كانت قبل النكبة.
لكل طوبة حكاية
شغف نعيم (28 عامًا) في التعرف على الآثار المعمارية في فلسطين، دفعه نحو البحث عن أهمها، وفي خضم بحثه وجد أن لكل حجر في تلك المباني حكاية تروي تاريخ بنائها، "وقادني ذلك لإطلاق مشروع نمذجة الآثار المعمارية في فلسطين المحتلة في عام 2019م".
ومنذ إطلاق المشروع عمل نعيم برفق مهندسين آخرين على تجسيد مجسمات لنحو 25 مبنى، إضافة إلى رسم 50 مجسمًا إلكترونيًا ثلاثي الأبعاد.
يقول نعيم لـ"فلسطين": "في البداية شاهدت صور المباني الأثرية والتاريخية، ولكني لم أستطع الوصول إلى التفاصيل المعمارية داخلها إلا بعد التواصل مع أصحابها، إذ تعرفت على شكل مداخلها ومخارجها، وفنائها، وطبيعة الحالة الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة قبل النكبة".
ويتابع: "صممت نماذج إلكترونية عن طريق برامج التصميم الهندسية، وتجسيم بعضها بالكرتون، وبالصلصال الحراري"، مبينًا إنه ينوع في تصميماته بين المباني الخاصة والعامة.
ويُرفق نعيم مع كل مجسم لوحة تُظهر اسم المبنى وصورًا له مع معلومات تاريخية عنه، ونُسخًا عن المخطط الهندسي التأسيسي، فضلًا عن توضيح الواقع الحالي الذي يشهده المبنى بعد وقوعه تحت الاحتلال الإسرائيلي.
ويشير نعيم إلى أن مباني الحكم أو ما يطلق عليها السرايات هي أكثر المباني التي كانت تميز المدن كصفد، وعكا، وبئر السبع، وهي التي تحدد هويتها والموروث المعماري للمدينة.
بيت برامكي
ومن أشهر المباني الأثرية التي جسّدها نعيم بيت "أنضوني برامكي" الذي كان مهندسًا معماريًا ذائع الصيت بنى بيته عام 1932 وأهداه لزوجته، فأصبح يُعرف بـ"بيت إفلين برامكي".
ويبين أن "برامكي" أشرف على بناء عدد من الكنائس وبيوت الفلسطينيين في الأحياء الجديدة التي نشأت خارج البلدة القديمة للقدس نهاية القرن التاسع عشر.
وتحول بيت "برامكي" في المدة ما بين 1948 وحرب 1967 إلى ثكنة عسكرية إسرائيلية، خاصّة أنه قريب من "بوابة مندلبوم" التي كانت تقع على خطّ الحدود بين غربي القدس المحتلة وشرقها، التي كانت تحت الحكم الأردني، وفق نعيم.
ويلفت إلى أن بيت "برامكي" حوله الاحتلال الإسرائيلي إلى متحف ومعرض يدعو "للتسامح والتعايش"، وهذا يتناقض مع حقيقة السطو الإسرائيلي على البيت فصاحبه لا يزال يقف على أعتابه ينادي بتحريره وإرجاعه إلى أصحابه.
خلق إحساس واقعي
ويشير "حسين" إلى مجسم ثانٍ يمثّل قصر رجل الأعمال الفلسطيني الراحل قسطنطين سلامة الذي بني في حي الطالبية عام 1930، الذي يتوسط ميدانًا كان يحمل اسم سلامة قبل أن يُهوّد ليصبح "ميدان وينجيت"، أجّره قبل الهجرة للقنصلية البلجيكية حيث كانت تدفع الإيجار لصاحبه قبل أن تتوقف تمامًا، وتحول دفع الإيجار للاحتلال الإسرائيلي، ولا يزال قائمًا حتى اليوم.
ويبين "نعيم" أن الهدف من المشروع هو تجسيد المباني الأثرية والتاريخية كمجسمات لتمنح المشاهد المحروم من الوصول إليها بسبب الاحتلال إحساسًا أعلى من الصور الصماء، ويشعر بأنه يزورها ويراها رأي العين.
والأمر الآخر المهم، يذكر أن المشروع يمكّن المهندسين المعماريين من الاطلاع على أشكال المباني في فلسطين قبل النكبة، التي كانت تضاهي كبريات المدن في العالم، وشهدت تطورًا وكثافة عمرانية كبيرة.
غير أن العمل على ذلك ليس بالأمر السهل، إذ يواجه المهندسون صعوبة في الحصول على المخططات الهندسية، والوثائق الخاصة بالمباني، "لأن الاحتلال الإسرائيلي يمنع توثيق تلك المباني من مهندسين فلسطينيين".
ويوضح أن وسائل التواصل سهّلت وصولهم إلى بعض المالكين الأصليين الذين يحتفظون بمخططات تلك المباني، مشيرًا إلى التكلفة المادية للمشاريع التي يتطلب تنفيذها وقتًا طويلًا.
مراحل العمل
وبينما يعمل زميله طارق العمَر على تعديل تصميمات هندسية ثلاثية الأبعاد على برامج حاسوبية، لإظهاره بشكل أقرب إلى الواقع، مبينًا أن نمذجة المباني تهدف إلى تحويل المعمار الفلسطيني الأثري لنماذج ثلاثية الأبعاد مطابقة للواقع، لكن بحجم أصغر.
وتبدأ المراحل الأولى لتنفيذ المشروع في البحث المعلوماتي حول المبنى الأثري الذي سيُحول إلى مجسّم والمساقط الهندسية وصوره، وفق العمَر، ومن ثم تبدأ عملية النمذجة الإلكترونية للمبنى المُستهدف، وفق الأبعاد الأساسية والمواد الخام التي أُسّس منها، كي ينتج مبنى يطابق تمامًا ما هو موجود على أرض الواقع.
ويضيف أنه بعد تصميم مُجسم ثلاثي الأبعاد، يبدأ العمل في تكوين هذا المجسم باستخدام المواد الكرتونية المطبوعة بأشكال تُحاكي مظهر المبنى الخارجي، آملًا بأن يتمكن الفريق من نمذجة المباني الأثرية الواقعة في المدن والقرى الفلسطينية المحتلة كافة.
ويطمح الفريق الهندسي إلى إنشاء معرضين: واقعي، وافتراضي لشكل المعماري للمباني الأثرية والتاريخية في فلسطين، حتى يتمكن الفلسطينيون في داخل فلسطين من زيارته، ويمكّن المغتربين من التجول افتراضيًا للتعرف على تلك المباني.