في مسيرات التحرر.. تحتفظ الذاكرة الجمعية للشعوب بعدد من الأرقام والرموز والشخصيات التي شكلت مفاصل العمل الثوري، والتي لا يمكن أن تتجاوزها الأحداث والكلمات حين التطرق إلى هذه المسيرة، وليس هناك أغنى ولا أكثر ثراء من القضية الفلسطينية إذ تجود برجالاتها وشخوصها الوطنية التي حملت على عاتقها الوقوف في الصف الأول لتكون قائدة للمجموع الوطني في نيل حقوقه ومقاومة الاحتلال بكل الوسائل الممكنة.
عاش الشيخ خضر عدنان حياة المقاوم الصنديد العنيد المتمترس خلف حقوقه بصلابة وشراسة، وعاش مؤمنا برسالته البليغة "من أراد المفاخر، فلا يرضى بالصف الآخر"، هكذا أدرك الشهيد عدنان بأن دوره يكمن في الصفوف الأولى، حاملا على عاتقه لواء الدفاع عن الشعب الفلسطيني، فلا عجب أن ترى الفارس ذو الـ 45 ربيعا يحظى بهذه السيرة الممتدة من الفداء والتضحية.
فتلك المسيرة التي بدأها مبكرا في أواخر التسعينات من القرن الماضي شابا فتيا مقداما، استمرت لتحمل معها أكثر من 25 عاما من الصبر والثبات قدم الشيخ خلالها قرابة 9 أعوام متفرقة قربانا لقضيته بين جدران الزنانين وتجارب الاعتقال التي خاضها 12 مرة، ليثبت خلالها أن الكف يواجه المخرز وأن العزائم أقوى من الجرائم، وأن الجوع يصلح لأن يكون سلاحا بيد المقاوم يستخدمه ليخضع قاتليه وآسريه.
لم تكن تجربة خضر عدنان النضالية تجربة عادية، وإنما يمكن وصفها بأنها كانت معركة من يصمد أكثر، فتلك الستة وثمانون يوما التي سبقت استشهاد الشيخ عدنان لم تكن سابقته الأولى في معركة الإضراب عن الطعام وإن كانت أطولها، لكنها سُبقت بـ 228 يوما من الجوع خاضها الأسير في خمسة معارك سابقة كانت أولاها في العام 2005، وكررها في أعوام 2011، 2015، 2018، 2021 لا تلين له عزيمة ولا تلين له قناة.
لا نبالغ إن قلنا إن الشيخ خضر عدنان كان من أبرز أيقونات هذه المعارك الصامتة جنبا إلى جنب مع الأسرى سامر عيساوي وأيمن الشراونة وهشام أبوهواش وغيرهم، لكن الأمر الأكثر تميزا لهذا البطل أنه خاض التجربة 6 مرات جعلت منه الفارس المخضرم الذي يتقن معاركه ويهزم سجانه في كل مرة، يسقط عزله الإنفرادي، وينهي اعتقاله الإداري ويثبت للسجان أنه صاحب الكلمة العليا في هذه المعركة، وأن قوته يكتسبها من ضعفه وهذه هي المفارقة.
يمضي اليوم الشيخ خضر عدنان متبخترا متباهيا وقد عاش حياة الأبطال ومات ميتة الشرفاء، يحمل على صدره الوسام ذو الرقم 234 ليلتحق بـ 233 أسيرا قضوا نحبهم داخل الزنانين الصهيونية، ليشهدوا جميعا على حجم الجريمة التي عاشوا داخل هذه الأقبية المظلمة الباردة التي تنتهك الكرامة والإنسانية وتحمل بين جنباتها قصصا طويلة من البؤس والظلم، وضياع أجمل سنين العمر التي قدمها أبطال الشعب الفلسطيني قربانا على مذبح الحرية.
هذه التضحية ليست منقطعة أو نافلة من الزمن، إنما هي امتداد لآلاف التضحيات المبذولة والدماء المسفوكة وآهات وعذابات حصدت أرواح الأسرى، ابتدأت بالأسير عبد القادر أبو الفحم الذي ارتقى في إضراب سجن عسقلان عام 1970 ولا تزال مستمرة حتى اليوم، ولا تزال ترفع شعارها الخالد "فإما حياة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدا"
رحم الله الشهيد الشيخ خضر عدنان وتقبله في جنات النعيم..
العزاء لمحبيه، والعار والخزي لقاتليه.