جيد ومطلوب أن تكون هناك حملة استهجان إعلامية كبيرة ضد كل من ينال من ثوابت القضية الفلسطينية، أو يحاول التقرب للاحتلال والتطبيع معه عبر الهجوم على المقاومة أو بعض متعلّقاتها، أو يتحدث متفاخراً عن دور المنظومة التي يمثلها في ملاحقة هذه المقاومة ونجاحها في تحييد كثير من العمليات. فإنكار تلك التصريحات يشعرنا –على الأقل- بأن الثوابت ما زالت تحظى بمكانتها في الوعي الفلسطيني غير الملوث بسياسات التدجين الجديدة.
وهذا ما حدث مع تصريحات الوزير السابق في السلطة أشرف العجرمي، في لقاء تطبيعي جمعه مع ضباط متقاعدين في جيش الاحتلال في القدس، فإضافة إلى مهاجمته المقاومة وإسهابه في الحديث عن حجم الجهود التي بذلتها السلطة وأجهزتها الأمنية في الحد من تصاعدها في الضفة الغربية، واعتقال خلاياها، فقد انتقد سياسة صرف رواتب (عالية) للأسرى في سجون الاحتلال، ثم هاجم منفذي العمليات مدعياً أن غالبيتهم لديهم مشاكل نفسية واجتماعية!
ليس مهماً تحليل مغزى تصريحات العجرمي، والبحث عما وراء هذا التطرف في التبرؤ من المقاومة الفلسطينية ومتعلقاتها المختلفة، وعلى رأسها قضية الأسرى. المهم هنا أنه بدا في حديثه الذي نشر تسجيله على الإنترنت متحدثاً باسم السلطة، وليس باسمه الشخصي، وحاول تحسين صورة محمود عباس في عيون الإسرائيليين، وتفنيد الشبهات المثارة حوله بتأكيد التزامه بمحاربة العنف والتمسك بإملاءات أوسلو الأمنية.
أما الأهم من كل هذا فهو أن تصريحاته لا تختلف عن سلوك السلطة ومنهجها المتبع على الأرض، كل ما في الأمر أن التصريحات تعبير بسيط وصريح عن سياسة أو عقيدة السلطة، وهي عقيدة نشاهد تجلياتها يوميًا، وتظلّ ماضية دون التأثر بأي خلاف سياسي مع الاحتلال، الفرق فقط أن العجرمي كان صريحاً أكثر من اللازم كما يبدو في تسجيله (مآثر) السلطة الأمنية أو في تعبيره عن قناعاتها الحقيقية، فيما تجنح السلطة عبر قادتها الأكثر شهرة إلى لعب دور مخاتل مع الجمهور، وذلك من خلال التغني كلامياً بالشهداء والأسرى، مع الإساءة لهم فعلياً بالملاحقة والاعتقال ومصادرة الأموال!
فهل يستقيم أن نطالب بمحاكمة العجرمي، وأن نغضب لتصريحاته، لكن دون أن نغضب أو نكترث عند اعتقال أسير سابق وتعذيبه ومصادرة أمواله؟ ودون أن نرى ضرورة محاكمة ومحاسبة من يقترف تلك الجرائم بحق المقاومة ورموزها وكوادرها في الضفة الغربية؟
تلك ازدواجية غير لائقة، وهي تستبطن عدم إدراك لطبيعة السلطة، إلى جانب الظن بأن مشكلتها في بعض قادتها وممثليها، كما تشير إلى أن هناك من يستثقل انتقاد الرأس أو الإشارة إلى فساد الجوهر، فيركز جهده على الذنب، لأن انتقاده وهجاءه والغضب منه أقل كلفة، مقارنة مع انتقاد السياسات وصانعيها الحقيقيين، وفضح جريمتهم الكبيرة والمستمرة ضد شعبنا ومقاومته وقضيته.
لا جديد في تصريحات العجرمي سوى أنها أعادت تذكيرنا بأصل المأساة الفلسطينية، وبحجم جناية أوسلو عليها حين أتاحت للسلطة المنبثقة عنها أن تنظّر في الوطنية وهي تطعنها في خاصرتها، وأن تستغفل العقول بادعاءات احترام الثوابت، مع ممارستها عملية تلويث وتدجين مستمرة لها.