"هيني لقيت شغل".. هذا ما قاله العامل زياد الغول لنجله سامي (34 عامًا)، في يومه الأول بعمله الجديد بمصنع بمدينة رهط بالداخل المحتل، مطلع مارس/ أذار الماضي.

لكن لم تمضِ ساعات على حديث الأب مع نجله حتى تواردت الأنباء عن وفاة عامل بالداخل المحتل، عاشت معها العائلة لحظات عصيبة وهي تتصل به للاطمئنان عليه، قبل أن تفيق على صدمة وفاته في إثر سقوط رافعة بناء عليه.

ومنذ وفاة والده يعمل سامي على بسطة لإعالة شقيقاته الخمس ووالدته المريضة، بعد أن رسم أبناء زياد أحلامًا عديدة عندما حصل على تصريح عمل.

لقمة مغمسة بالمعاناة

"لم يهنأ أبي بالحصول على تصريح عمل، فقد توفي بعد ثلاثة أشهر من الحصول على تصريح، وكان خلالها يبحث عن عمل ثابت أو يتنقل بين عمل وآخر، وتحامل على نفسه لأجل إعالتنا رغم مرضه"، يقول سامي الغول نجل شهيد لقمة العيش زياد لصحيفة "فلسطين".

خلال الأشهر الثلاثة لم يرَ الأبناء والدهم سوى مرتين، فكان كل همه توفير دخل لهم، وإيجاد فرصة عمل، وهم يحاولون الآن الحصول على تعويض على الرغم من يقينهم أن الاحتلال الذي أصدر التصريحات تحت مسمى "احتياجات اقتصادية" سيتنصل.

 يردف بقهر: "كلفت محاميًّا بالترافع عن القضية، نحاول التأكد من سبب الوفاة، والحصول على تعويض، لأنه توفي بموقع عمل".

الساعة الخامسة من مساء الاثنين الماضي، انقطعت أخبار الحاج العامل أمين وردة (59 عامًا)، وفقدت آثاره عندما كان متوجهًا من مقر سكنه بالداخل المحتل إلى عمله بمنطقة "كريات ملاخي"، بالقرب من قطاع غزة، وكان يمر مشيًّا بجوار كنيس يهودي لمتطرفين إسرائيليين.

أبلغت عائلته جميع المؤسسات الحقوقية والدولية باختفاء آثاره، فعاشت لحظات صعبة وأيامًا عديدة تنتظر أي خبر عنه ينهي كل الهواجس والاحتمالات التي ظلت تسيطر عليها، إلا أن وصلها الخبر، وأعلن استشهاده بظروف غامضة، إذ وجد جثة هامدة في إحدى مستشفيات الاحتلال.

حصل وردة على تصريح عمل منتصف شهر رمضان، بعد سنوات طويلة أمضاها عاطلًا عن العمل، كان ينظر للتصريح أنه فرصة للخروج من مستنقع الفقر والمعاناة، فغمرته فرحة كبيرة، لكن فرحته لم تدم طويلاً، وعاد إلى عائلته في نعش تملأ جسده كدمات الاعتداء، واستقبلته بدموع وقهر.

بكلمات مليئة بالحزن والقهر في آن واحد يقول شقيقه خالد لصحيفة "فلسطين": "تفاجأنا بعد بحث وانتظار أنه موجود بمستشفى "أبو كبير" بيافا، وأن تقرير الطب الشرعي لدى الاحتلال لم يذكر أسباب الوفاة، رغم وضوح أثار الكدمات على عينه وأنفه ومنطقة الصدر".

بعد حصوله على تصريح في منتصف شهر رمضان، وجد وردة عملًا قبل يوم واحد من استشهاده، واستطاع قبل حلول العيد العودة إلى غزة وعيش أجواء العيد مع عائلته.

تسكن حسرة الفراق صوت شقيقه: "أمين إنسان طيب، كان محبًّا لإخوته ولصلة الرحم، كان سعيدًا بالحصول على تصريح عمله، وأراد أن يبني مستقبلًا لأولاده (ستة ذكور وفتاة)".

أما العامل عبد العزيز الدغمة فلم ينجو خلال عودته من مقر عمله إلى مكان سكنه من حادث مروري، عندما صدمه أحد الإسرائيليين بدراجة نارية في 30 يناير/ كانون الثاني 2022.

"منذ وفاة أبي تركنا نواجه مصيرًا صعبًا، وتراكمت علينا الديون، فلدي خمسة أشقاء، بينهم أخت مريضة إضافة لوالدتي، ونحن متعطلون عن العمل، تأملنا بتصريح العمل بأنه فرصة للنجاة من شبح الفقر، ولم ندرِ أن والدي سيرحل" يقول نجله عبد اللطيف.

فرحة لم تدم

قبل ستة أشهر من استشهاده، حصل الدغمة على تصريح عمل، بعد 16 عامًا من التعطل عن العمل، غمرته الفرحة كما غمرت قلوب أبنائه الذين لم تدم فرحتهم طويلًا، وعادوا إلى مستنقع الفقر الذي لم يخرجوا منه خلال فترة عمل والدهم البسيطة، وذهبت أولى رواتبه التي تحصل عليها لسداد الديون، وفوق الفقر استوطنهم جرح الفقد.

إضافة إلى الغول وأبو وردة والدغمة توفي محمد الجبلي (59 عامًا)، في إثر تعرضه لنوبة قلبية خلال عمله في مدينة رهط بالنقب، في 20 أبريل/ نيسان الماضي، وكذلك العامل مجدي صبحي أبو كرش (54 عامًا) الذي استشهد بصعقة كهربائية خلال عمله بالداخل المحتل في 23 يناير/ كانون الثاني الماضي.

وفي 27 ديسمبر/ كانون الأول 2022، استشهد العامل خالد كمال العجلة (35 عامًا) من جراء سقوطه في ماكينة طحن للحوم بمصنع إسرائيلي بمدينة عكا.

ووفق بيانات لاتحاد نقابات العمال بغزة، استشهد العامل أحمد عياد في 5 يوليو/ تموز 2022، من جراء اعتداء جنود جيش الاحتلال عليه بالضرب المبرح في أثناء توجهه إلى العمل في الداخل المحتل عند فتحة الجدار الفاصل بطولكرم شمال الضفة، وبنفس الطريقة والمكان استشهد العامل محمود سامي خليل عرام (27 عامًا) من سكان مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، في 8 مايو/ أيار 2022.

كذلك استشهد العامل جمال معروف، في إثر تعرضه لحادث سير في أثناء عمله في الداخل الفلسطيني المحتل، في 3 فبراير/ شباط.

ويتصاعد حجم وعدد الضحايا العمال الفلسطينيين سنة بعد أخرى، إذ توفي العام الماضي أكثر من 50 عاملًا من الضفة الغربية والداخل المحتل، وفي 2021 توفي 66 عاملًا في ورش الصناعة والتجارة والبناء والخدمات الزراعية، و65 عاملًا توفوا عام 2020، و47 عاملًا توفوا عام 2019، وتوفي 39 عاملًا عام 2018.

وتنبه تلك الأرقام على انعدام الأمن في مواقع العمل الإسرائيلية، وإجراءات السلامة المهنية.

ووصلت أعداد العمال الفلسطينيين في الداخل المحتل 18500 عامل، يعمل غالبيتهم تحت مسمى "احتياجات اقتصادية"، ويهدف الاحتلال من هذا المسمى إلى التنصل من الالتزام بحقوقهم القانونية وتعويضهم، بينهم نحو 1500 عامل يعملون بتصريح مشغل.