تصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، بمحاباة (إسرائيل)، لقولها: “الاحتلال حوّل الصحراء إلى جنة”، ما هي إلا اصطياد في المياه العكرة، من أجل مصالح شخصية، ففي الوقت الذي تتكشف الصورة الحقيقية للاحتلال الإسرائيلي بوجهه القبيح، بعد إدانة مجلس الأمن الدولي قبل أيام للممارسات والإحصائيات الإسرائيلية الأحادية من تهويد واستيطان، وانتهاك حرمة المقدسات، والإعدامات الميدانية بحق الشعب الفلسطيني وأيضًا لمسح عار النكبة عن جبين الصهاينة، ولتغيير صورة المجازر التي اقترفتها ضد الشعب الفلسطيني.
دير لاين تمثل أعلى سلطة في الاتحاد الأوروبي، والمفوضية الأوروبية الذراع التنفيذي له، يعني أنها لا تتحدث باسمها فقط، وإنما باسم الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو، بمعنى آخر العالم الغربي عمومًا.
الذي أريد أن أصل إليه، هو الإجابة على التساؤل الآتي: لماذا يحابي الغرب (إسرائيل) بالرغم من كل سياساتها المتناقضة مع القانون الدولي الإنساني ضد الشعب الفلسطيني من استيطان وتهويد للقدس والضفة وحصار لغزة؟
(إسرائيل) كيان احتلالي و امتداد طبيعي للمشروع الاستعماري الغربي، فهي ولدت من رحم وعد بلفور في 1917، وبُرّر بأكذوبة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وقُدّم لها كل أسباب الدعم المادي والعسكري، فدعم الغرب لـ(إسرائيل) يشابه دعم الأب لابنه، ليبقى الكيان الصهيوني الجسم الغريب الذي يشق الوطن العربي، إذ يكون موطئ قدم للمنظومة الغربية في بلاد المشرق يمثل وجهتها الاستعمارية في المنطقة، وليس كما يعتقد البعض من أجل حماية مصالح الغرب الموجود بأساطيله وثقله على طول الوقت في الشرق، بل لإثارة القلاقل وشن الحروب والعدوان وتهويد فلسطين، وشق الصف العربي وقطع الطريق بينها وبين عمقها الإسلامي، وهذا ما يوضح حقيقة غض الغرب الطرف عن هفوات (إسرائيل) وتمردها على المجتمع الدولي.
وبالرغم من وجود مساحات اختلاف بين حكومة الاحتلال والحكومات الغربية، مثل قضية الاستيطان وحل الدولتين وانتهاك القوانين الدولية، إلا أن الغرب لا يضحي بانحيازه الإستراتيجي لدولة الاحتلال بسبب هذه الاختلافات؛ لذا نجده يتراجع سريعًا عن مواقفه، وفي كثير من الحالات يعتذر لها، والسبب في هذا أن الحكومات الغربية لا تكترث لردّ الفعل العربي في مواجهة اعتداءات (إسرائيل). فاعتادت تلك الحكومات على ردات الفعل العربية التي لا يتجاوز سقفها الشجب والاستنكار أو السماح بالتظاهرات لامتصاص الغضب الشعبي ليس إلا.
كما أن الغرب يبدي تعاطفه مع (إسرائيل) لكونها تمثل وجهته الحضارية، التي تتصنع تطبيق الديمقراطية وتقدم نفسها للغرب كيانًا يتبنّى قيم الحضارة الغربية والقيم الليبرالية ويدّعي محاربة اللاسامية أليس هذا مدعاة سخرية؟ في مقابل ما ترتكبه من فصل عنصري واضطهاد وقتل وتنكيل للشعب الفلسطيني، ولا تزال النكبة مدموغة على جبين الصهاينة في القائمة السوداء، والتاريخ خير شاهد على المجازر التي اقترفوها منذ أن وطأت أقدامهم أرض فلسطين وهجّروا شعبها، ما أدى للجوء أكثر من ستة ملايين فلسطيني لا يزالون يعيشون في المخيمات والمنافي.
وبالرغم من كل ما تقترفه الآلة العسكرية الإسرائيلية من مجازر في الضفة وغزة، إلا أن ضمير الغرب والمجتمع الدولي عمومًا لم يستيقظ، وما تزال ردة فعل الرأي العام الغربي في مواجهة ما يتعرض له الفلسطينيون أقل بكثير مما يمليه عليهم واجبهم الإنساني تجاه القضية الفلسطينية.
ومن هنا لا يزال التساؤل مطروحًا عن الموقف غير المفهوم لهذا الضمير الغربي والسبب في انحيازه للاحتلال الإسرائيلي، فلا أحد يجهل في الواقع أن المواطن الغربي هو أسير إعلام توجهه الدعاية الصهيونية وما أحرزته في العقود السابقة من عمليات غسيل دماغ للعقل الغربي، إضافة إلى نفوذ اللوبي الصهيوني وجماعات الضغط التي تحرك خيوطها سرًا وعلانيةً في الغرب، وفي المقابل تغييب الرؤية الفلسطينية، نتيجة عدم وجود أي تأثير للإعلام العربي على الرأي العام الغربي. يكفي أن يدخل المرء على الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الإسرائيلية على شبكة الإنترنت ويقارنه بمواقع وزارات الخارجية العربية أو بالمواقع الرسمية العربية الأخرى التي أصبحت لا تعطي القضية الفلسطينية أي اهتمام، بسبب تخاذل أنظمتها، ففي الصفحة الرئيسية لموقع وزارة الخارجية الإسرائيلية يطالع المتصفّح مواضيع لإظهار الوجه المزيّف لـ(إسرائيل) بهدف استعطاف الرأي العام الغربي على وجه الخصوص، بتذكيرهم بالمحرقة النازية “الهولوكوست”، أو الدعاية القديمة الجديدة، بأن (إسرائيل) محاطة ببحر من الأعداء العرب الذين يتحينون فرصة الانقضاض عليها وإبادتها، أو عرضها مشاريع العمران واستحداث المدن، دون ذكر الحقيقة بأنها مستوطنات أقيمت على حساب أراضي وممتلكات الفلسطينيين.
إن الضمير الغربي لم يشعر بعقدة الذنب نفسها لما تعرّض له الفلسطينيون على مدى عقود طويلة من الاضطهاد والتشريد والقتل إلى حد ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في بعض الأحيان والتي ترقى إلى جرائم الإبادة. وحتى في الحالات التي بدأ يصحو فيها ضمير قطاعات من المجتمع الغربي بسبب ما يتعرّض له الفلسطينيون، فإن هذه الصحوة لم تتجاوز حد المظاهرات وتنظيم بعض مبادرات التعاطف مع الفلسطينيين مثلما حدث في قوافل المساعدات الإنسانية إلى غزة، ولم يصل الأمر يومًا إلى حد التأثير في السياسات والمواقف الحكومية الغربية تجاه القضية الفلسطينية، هل معنى ذلك أن الضمير الغربي يعاني الانفصام والازدواجية؟ وهل تحكمه لغة المصالح؟ كلا، فارتباط مصالحه بالوطن العربي أكثر ارتباطًا وأهمية من مصالحه بـ(إسرائيل)، ولكن الغرب يطبق ازدواجية المعايير، فوجهة النظر الغربية تعتمد في الأساس على أن العملية الروسية في أوكرانيا بمثابة انتهاك للسيادة الأوكرانية وللشرعية الدولية ولحقوق الإنسان، في حين يتعامل مع انتهاكات (إسرائيل) بقفازات من حرير، بعد أن اتضح أن حقوق الإنسان شماعة تُرفع لتحقيق مصالح سياسية للغرب، وتُركن إذا تعلق الأمر بحلفاء أو أصدقاء.