يكاد العمل يكون صعبًا جدًا على سائق أجرة يعمل منذ 43 عامًا في بقعة جغرافية صغيرة كقطاع غزة، ممتلئة بالسكان، وتعاني الازدحام من تفادي الوقوع في مخالفة مرورية، لكن السائق أمين كامل الهسي (60 عامًا) لم يرتكب أي مخالفة مرورية طيلة أربعة عقود ونصف العقد عاصر خلالها مراحل زمنية مختلفة، فبقيت سيرته لدى شرطة المرور والنجدة "بيضاء فاستحق معها تكريمه قبل أيام" نتيجة التزامه بقوانين السير.
يجلس داخل سيارة أجرة صفراء من نوع "Toyota Corolla" اشتراها قبل 22 عامًا، ولا زالت وفية له وقادرة على العطاء، تستمد قوتها من إرادته وتمسكه بالمهنة على الرغم من تقدمه بالسن، لكن ملامحه التي ترسم حكاية طويلة في مهنة القيادة تعطيه سنوات أقل.
الهسي من سكان منطقة جباليا "النزلة" شمال قطاع غزة، يحمل رخصة قيادة درجة (10)، واجتاز كل الرخص الممكنة من قيادة مركبة، وشاحنة (مقطورة) وتراكتور ورخصة حمولة، ورخص قيادة حافلة، يعمل سائقًا ولم يتم مخالفته سواء خلال عمله في غزة أو حتى بعمله في الداخل المحتل، كما أنه لم يتسبب في حادث سير.
لحظة مقابلته اختار أن يركن مركبته في مكان مخصص لوقوف المركبات أمام مقر صحيفة "فلسطين" بمدينة غزة، وأطفأ محركها وابتسم: "هيك بنقدر نحكي براحتنا.. أنا إنسان مش مستعد أتخالف أو أقف بشكل خاطئ".
كان الموقف السابق دليلًا عمليًّا على التزام السائق الهسي بقوانين السير، يطل من ذاكرته على أول مركبة اشتراها يخط فيها قصته لصحيفة "فلسطين": "لم أتجاوز ثمانية عشر عامًا عندما ركبت أول سيارة، ووقتها بعت ذهب زوجتي لشراء السيارة، وكنت اشتغل بشركة مع مجموعة عمال من غزة يعملون في الداخل المحتل، فأوصلهم وأمكث معهم بالشركة للعمل ثم أعيدهم لغزة مساءً، واستمر هذا الحال سبع سنوات".
في عام 1987 اشترى "الهسي" شاحنة وعمل عليها مدة عامين في نقل البرتقال لأحد المصانع، لكن وبسبب كثرة الأعطال والتكاليف المرتفعة للصيانة عاد إلى العمل على مركبة الأجرة.
ولا يبذل الهسي جهدًا إضافيًّا لتجنب الحصول على مخالفة، فكل ما يفعله هو الالتزام بقوانين السير، يقول وملامحه ترسم ابتسامة مجيبًا عن سؤالنا حول قدرته على تفادي الوقوع بالمخالفات أو الحوادث: "السر في أنني أسير بشكل قانوني، لا أتجاوز السرعة المحدد سواء خلال قيادتي في غزة أو الداخل المحتل عندما كنت شابًا صغيرًا، أجدد ترخيص المركبة بانتظام، أقوم بتحميل الركاب بالأماكن المخصص ولا أحوج نفسي للمخالفة".
لا يقود أمين مركبته بسرعة، ولا يقوم بتحميل الركاب عند زوايا المفترقات، بل يقوم بالتحميل في الأماكن المخصص لذلك، فهو غير مستعد لتحمل "مخالفة قيمتها 50 شيقلاً، لأجل حمولة ركاب تبلغ 4 شواقل" كما يقع السائقون بنفس الخطأ.
علاقة حب
"علاقتي بالسيارة علاقة حب منذ الطفولة، فكنت دائمًا أتمنى الحصول على الدرجة 10 بأن أجمع كل رخص القيادة، كانت والدتي تقول لي: "شو بدنا بالسواقة"، وكنت دائمًا أنظر إلى المستقبل في ردي عليها ولتلك الأمنية: "بدي آخذ كل الرخص، واختم المهنة من الجلدة للجلدة".
على الرغم من أن الهسي يبلغ من العمر ستين عامًا، إلا أن حركته في التعامل مع المقود والتنقل تنافس رشاقة الشباب، وهذا ما دفعه للضحك كاشفًا السر: "صحتي تعطيني أقل من عمري، لأنني أحافظ عليها وأمارس رياضة المشي يوميًّا".
يخرج صباحًا للعمل، ويعود الساعة الواحدة ظهرًا لتناوم طعام الغداء أو الاستراحة مدة ساعتين، ثم يعود للعمل حتى قبيل صلاة المغرب بنصف ساعة فينهي عمله، ويعود للبيت للصلاة والخروج مع زوجته لممارسة رياضة المشي ثم يخلد للنوم مبكرًا مستعدًا ليوم عملٍ جديد، وقبل ذلك يحتسي القهوة.
بالنسبة له القيادة ليست مجرد مهنة، يفتح قلبه ليخرج هذا الحب: "القيادة هواية عندما أجلس خلف المقود أشعر بالسعادة، أرى العالم والناس وهذه متعة، تتحدث مع الركاب، السائقون ينظرون إلى بعيون التقدير، ويلقبونني بأني أقدم سائق".
تكريم مستحق
كرمت شرطة المرور ووزارة النقل والمواصلات ونقابة سائقي الأجرة العم الهسي لعدم ارتكابه أي مخالفة، ترتسم ابتسامة فرح ونبرة صوت توحي بالسعادة: "فرحت لذلك، تم تكريمي بمنحي ترخيص مجاني لستة أشهر مع مكافأة نقدية و60 لتر سولار".
من أصعب المراحل التي مرت عليه، هي عمله خلال أزمة فيروس كورونا، يستذكر: "كنت أشتري علبة كمامات وعندما يركب راكب في السيارة لا يحمل كمامة أخرج واحدة لتجنب المخالفة، وكان الأمر يستنزف مالًا حتى أنني كنت أشتري علبة كل ثلاثة أيام تقريبًا، ولم أفعل ذلك لأجل شهرة بل لتأكيد الالتزام بقوانين السير".
لم يرزق الهسي بأولاد، فتبنى ابنتي شقيقه وهما نورا (14 عامًا) وعهود (33 عامًا) التي زوجها قبل مدة، وعوضتاه عن شعور الأبوة بمناداته بـ "بابا"، يقول: "كنت لهما أبًا منذ طفولتهن، عاشتا عندي وتكفلت بكامل مسؤوليتهما حتى كبرتا".
عميد السائقين الذي مرَّ بمراحل زمنية مختلفة، يربط بين حال القيادة قديمًا وحاليًّا، قائلًا: "في السابق لم يكن هناك ازدحامًا مروريًّا، الآن هناك ازدحام ولكنني أتعامل بهدوء".
إضافة إلى ذلك يشير إلى الفرق في سعر لتر السولار، فقديمًا كان يبلغ سعر اللتر شيقلًا و20 أغورة، واليوم يبلغ سعره 6 شواقل، يضرب كفًا بكفٍ: "بالكاد تستطيع العمل بدخل يومي يبلغ 30 أو 40 شيقلًا، فمعظم الداخل اليومي يذهب للوقود".
يهمس في أذن السائقين الجدد والقدامى بنصائح خرجت من أحشاء تجربته الممتدة عبر سنوات طويلة، بأن يبتعدوا عن السرعة الزائدة؛ لأنها سبب الحوادث والقتل، والسير بوتيرة متوسطة وعدم الاستعجال والتسابق في تحميل الركاب لأن "الرزق على الخالق".