انقلبت الحياة في شهر رمضان بالنسبة لـ"أسد الله جرادات" من بلدة "السيلة الحارثية" غرب جنين رأسًا على عقب، فلم تعد أجواء البهجة والضجة التي تملأ المكان في كل يومٍ من رمضان موجودة، ولم يعدْ لـ"اللمة العائلية" معنى للعام الثاني على التوالي بعد أن غيّبت سجون الاحتلال "روح المنزل".
ولا يستطيع جرادات "30عامًا" أنْ يتقبل الصورة الباهتة التي بات يطرق بها "رمضان" باب عائلته بعد أنْ فرغت مائدة الإفطار الرمضانية من أربع مقاعدٍ، ففي عام 2021 اعتقل الاحتلال الإسرائيلي والدته عطاف وأشقائه الثلاثة: منتصر وعمر وغيث.
هم ستة أشقاء اعتادوا في رمضان -المتزوجون وغير المتزوجين منهم يسكنون الحي نفسه- الاجتماع على مائدة إفطار واحدة، "فما أن يدخل وقت صلاة العصر تتوجه زوجاتنا لمنزل والدتي لمساعدتها في إعداد الإفطار، ونكون في أشد الشوق والشغف لما ستعده لنا أمي على طاولة الإفطار، فرائحة وطعم ما تطهوه من أطباق لا يشابهه شيءٌ آخر".
ويكون جرادات وأشقاؤه في سعادة غامرة ورائحة الطعام الشهي تتسلل إلى أنوفهم قبيل أذان المغرب، بينما يتحلّق الأحفاد العشرة حول جدتهم لتغمرهم بحنانها ويغمرونها بطلباتهم، فهذا يريد شوربة خضار وآخر يريد "سمبوسك" وهي تصغي بكل حبٍ لهم وتلبي كل طلباتهم فما "أعز من الولد إلا ولد الولد".
وبعد الإفطار يذهب الرجال لصلاة التراويح ثمّ يعودون لمنزل والدتهم ليقضوا سهرة رمضانية رائعة يتناولون فيها الحلوى التي تعدها زوجاتهم وأحيانًا شقيقاتهم الثلاث المتزوجات اللاتي قد شدّهن الحنين للاجتماع مع والدتهم على مائدة الإفطار والسهر معها.
ألم لا ينتهي
هذه الصورة الجميلة باتت تمثل لـ"جرادات" ألمًا لا ينتهي، بعد أنْ قضى العام الماضي "رمضانًا مختلفًا"، حرصوا فيه على استمرار "اللمة" لئلا يشعر والده وزوجات أشقائه الأسرى وأبنائهم بالوحشة، خاصة بعدما هدم الاحتلال بيت شقيقه عمر، "لكننا لم نُطقْ أن نجتمع في المكان ذاته الذي كانت تؤنسه أمي في رمضان، فكنا نجتمع في بيت شقيقي محمد".
ويضيف: "كنا نحاول حبس دموعنا وحسرتنا باجتماعنا دون أشقائي الثلاثة وأمي، لكن عيوننا وملامحنا كانت تشي بحجم الألم الذي يعتصرنا، والحال ذاته بالنسبة لرمضان هذا العام".
وكان الاحتلال قد اعتقل الأسيرة عطاف جرادات في 27 ديسمبر 2021 في سجن "الدامون" ولا تزال معتقلة بزعم وجود "ملف سري"، وقد سبقها بأسبوع اعتقال أبناءها: عمر (21 عامًا)، وغيث (18 عامًا) في سجن "مجدو"، ومنتصر (33 عامًا) في سجن جلبوع.
أما في القدس المحتلة فمن أصعب ما يمكن أن يمر على أم هيثم الحشيم هو شهر رمضان الذي يجدد في قلبها نار الشوق لابنتها الوحيدة الأسيرة أماني، التي تفتقدها على مائدة الإفطار للعام السابع على التوالي، إذ تقضي حكمًا بالسجن لعشرة أعوام.
فأماني الابنة الوحيدة لأم هيثم وشقيقة لأربعة إخوة، ظلت بالرغم من زواجها حاضرة في بيت عائلتها يوميًا أو يومًا بعد يوم في رمضان بحكم قرب مكان سكنها منهم، "لم أشعرْ بأن شيئًا قد تغير عليّ بزواج أماني، فهي بالكاد لا تفارق بيتنا خاصة في رمضان"، تقول الحشيم.
وتستدرك قائلة: "لكن الاعتقال كان أقسى على نفسي ملايين المرات من زواجها، فأنا لا أستطيع الوصول إليها واحتضانها، أزورها مرتيْن في الشهر لكنها لا تُطفيء شيئًا من شوقي لابنتي الوحيدة التي تمثل بهجة المنزل وتبعث فيه الحياة".
التعويض.. صعب
وتشير الحشيم إلى أنّ أماني كانت تهوى تزيين مائدة الطعام وتنسيقها، "أطهو لها ما تحبه هي وأشقاؤها فتتولى هي مهمة تحويل الطعام للوحة فنية، تدخل السرور على قلب أشقائها فنقضي وقتًا جميلًا في أثناء الإفطار وبعده".
وتربط الأسيرة الحشيم علاقة وثيقة بزوجة شقيقها "هيثم"، "لقد كانتا شقيقتيْن وأكثر ما أن ننتهي من تناول طعام الإفطار، تذهبان معًا لتناول الحلوى في أحد المحال القريبة أو للتسوق وشراء مستلزمات المنزل… بُعد أماني يلقي بظلال سلبية ليس عليّ فقط بل وعلى والدها وزوجها وأشقائها الأربعة".
وما يزيد ألم أم هيثم أن ابنا "أماني" أحمد وآدم (11 و10 أعوام) يكبران بعيدًا عن أمهما، ويقضيان الإجازة الأسبوعية في بيتها فترى فيهما أماني بينما يبحث هما في ثنايا البيت عن ملامح أمهما التي يفتقدانها كثيرًا في كل تفاصيل حياتهم اليومية".
تحاول الجدة تعويضهما "لكن الأمر ليس بالسهل أبدًا، واصطحابهما للأماكن العامة التي كانت والدتهما ترتادها دائمًا، إذ يتمنيان اللحظة التي يجتمعان بها على مائدة إفطارٍ واحدة مع والدتهما لكن سجون الاحتلال تحول بينهما وبين أمنياتهم".