"عمري 50 عامًا، لكني أعد نفسي ولدتُ الآن" لأول مرة منذ 23 عامًا يجتمع المحرر نبيل مسالمة (50 عامًا) مع زوجته وأولاده الثلاثة على مائدة واحدة، يعيش أجواء شهر رمضان بين حنية وعطف العائلة وكأنه ولد من جديد، يتذوق طعم الحرية والحياة بجميع أشكالها في طمأنينة وراحة نفسية بعيدًا عن قهر السجن والألم، بلا حراس على بوابة السجن ولا قمع ولا تفتيش مفاجئ ولا غاز مفاجئ.
قبيل ساعات الإفطار يبدأ المحرر مسالمة من محافظة الخليل، بمساعدة زوجته بتحضير وجبة الإفطار، يحاول تعويض عائلته عن كل الأعوام التي سرقها السجن منه، يشارك في تقطيع الخضار وطهي الطعام، يتناسى ما اختزنته ذاكرته التي تعج بالآلام والمآسي خلف قضبان زنازين وغرف السجن طوال ثلاثة وعشرين عامًا سبقتها أربعة أعوام قبلها ليبلغ مجموع ما قضاه داخل سجون الاحتلال 27 عامًا.
طعم الحرية
في الانتفاضتين الأولى والثانية تعرض مسالمة للاعتقال عندما كان في الثانوية العامة لأربعة أعوام بين عامي (1987-1994)، وأعاد الاحتلال اعتقاله مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000 وحوكم بالسجن لمدة 23 عامًا، أفرج عنه في 10 يناير/ كانون الثاني 2023 ليتنفس طعم الحرية وتجتمع العائلة بعدما شتتها الأسر.
لحظة دخوله الأسر ترك خلفه طفلته "بيروت" التي لم يزد عمرها آنذاك عن ثلاثة أشهر، وعندما تحرر وجدها أمّا تستقبله وهي تحمل ابنتها ذات الأشهر الثلاثة، وجد الحياة في الخارج تبدلت واختلفت تفاصيلها وكأنه عائد من عالم آخر ومن زمن مختلف تجمدت فيه صورة الحياة في الخارج عند اللحظة التي دخل فيها السجن، الأبناء كبروا، بعض الأقارب والجيران رحلوا، تغيرت منطقته كثيرًا.
"عندما تجلس على مائدة واحدة وتجتمع مع العائلة، أجواء جميلة تتمنى أن لا تنتهي، وقبل رمضان نعيش الحياة ويوميًا نخرج على الأقارب لزيارة العائلات واستنشاق هواء الطبيعة، وهذه الصلات تتجسد في شهر رمضان بعد الانقطاع والألم والفراق والعذاب الذي عشناه، نعيش حياة أشبه بشهر عسل"، شعره الأبيض، وملامحه التي تعج بمسيرة طويلة من المعاناة، ترويان حكاية ألم عاشها المحرر مسالمة خلف القضبان، يحاول الآن نسيان مراراته.
اقرأ أيضاً: تقرير السلطة تقتل فرحة رمضان في منزل المعتقل السياسي "الشرباتي"
بعد الإفطار يبدأ مسالمة بمشاركة زوجته في إعداد حلوى القطايف والكلاج، لحظة تعيده إلى أجواء الحياة مع الأسرى داخل السجن الذين استطاعوا ابتكار طرق لإعداد حلوى تختلف فيها المقادير والأصناف عن الخارج: "كل حياتنا تحدٍ للاحتلال، نصنع أو نبتكر الحلوى، وهذا بفعل إرادتنا وصمودنا ومسيرة نضالنا، إننا نعيش بظروف صعبة بالسجن تجمع روابط قوية وعلاقات أخوية مع الأسرى، يحاول السجان تنغيصها علينا دائمًا".
لقاء خارج الأسر
لم تكن اللمة الرمضانية هي الأولى التي يعيشها المحرر مسالمة، فلم يستطع احتضان طفله "كريم" الذي أبصر الحياة من نطفة محررة بعد 15 عامًا من الاعتقال، إلا بعد الإفراج عنه، يقول الطفل في إحدى المقابلات التلفزيونية وكأنه يتحدى الاحتلال في أثناء جلوسه في حضن والده: "خرجت من السجن رغمًا عن أنف الاحتلال نطفة محررة، واليوم أجلس في حضني أبي رغمًا عن أنفه".
تشده الذاكرة لأيام السجن واصفًا إياها بـ"فترة وجع وقهر وعذاب وظلم" ومرارة تبددت لحظة الإفراج، مع بقاء غصة في قلبه لوجود عدد كبير من الأسرى داخل السجون، منهم نحو 500 أسير أصبحوا عمداء للأسرى، وهم بحاجة لوقفة من الجميع لتحريرهم من ظلم السجن وقهر السجان، مع تولي حكومة يمينية متطرفة سدة الحكم في كيان الاحتلال تضع الأسرى هدفًا للتنكيل بهم.
وإن نال حريته، تأسر ذاكرته تفاصيل معاناة الأسرى المرضى، يمتلئ صوته بالقهر: "عندما كنت أذهب لعيادة سجن الرملة كنت أرى أجسادًا ممزقة، أسمع صرخات الأسرى يتألمون، ترى الأسيرة إسراء جعابيص المصابة بحروق بنسبة 60%، وكأنهم أحياء مع وقف التنفيذ".
كحال شقيقته بيروت، استقبل ابنه زيد والده وقد اكتملت فرحة زفافه المرتقبة، انتظر الشاب تحرر والده ليشاركه فرحة في أجواء تعيش فيها العائلة لحظات فرحٍ بين سنوات أسرٍ طويلة يحاولون محو أيام مرة من ذاكرتهم وتفاصيل حياتهم يتطلعون نحو مستقبل خالٍ من الاعتقال والأسر والتشرد.
يعود والده بذاكرته للوراء للحظة دخول نجله زيد عليه قبل سنوات داخل الأسر: "كنت بداخل السجن وتفاجأت بدخول زيد لغرفة السجن، كما تفاجأ الأسرى معي، كان عناقًا بين أب وابنه الشاب داخل القضبان كأول عناق بعد عشرين عامًا من الاعتقال استطاع معانقته وتقبيله داخل الزنزانة، في مشاعر ممزوجة بالفرحة للقاء والألم لأننا موجودان معًا داخل القضبان لحظة اعتقاله وكان ذلك بسجن النقب".