قبل شهرين كتبت مقالاً بمناسبة أحداث مخيم جنين بعنوان (التضحيات الفلسطينية.. لماذا؟ وإلى أين؟) متسائلاً فيه عن جدوى التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني على أيدي قوات الاحتلال الصهيوني، التي بلغت في العامين الأخيرين نحو 530 شهيدا، وأكثر من 23 ألف جريح، وحوالي 15 ألف معتقل، فضلا عن هدم المنازل، وتدمير المباني، واقتلاع الأشجار، والاستيلاء على الأراضي، وزيادة المستوطنات.
وللأسف فإن هذا النزيف ما زال مستمرا في حالة تشبه الإدمان، حيث قدم الشعب الفلسطيني في الشهر الماضي 22 شهيدا و522 جريحا و254 معتقلا، ليصبح المجموع منذ بداية العام الجاري، 81 شهيدا و2477 جريحا، و988 معتقلا، حسب تقرير حماية المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية (OCHAPT) للفترة من 28 فبراير/شباط -27 مارس/آذار 2023.
فمتى تتوقف هذه التضحيات التي تذهب هدرا، دون أن يكون لها أي دور في إنهاء الاحتلال وتحقيق المشروع الوطني الفلسطيني؟
التضحيات الفلسطينية والأسئلة الغائبة
الكثير من الأسئلة لا تزال غائبة بخصوص التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني، والجدوى منها، وأعتقد أن طرح هذه الأسئلة وتحديد إجابتها، أمر في غاية الأهمية حتى يتمكن الشعب الفلسطيني، بقادته وفصائله ونُخبه، من الخروج من حالته العاطفية الانفعالية، ومصالحه الذاتية والفئوية، التي أعجزته عن القيام بما ينبغي لتحسين وضعه السياسي، وبلورة المشروع الوطني الشامل القادر على تحقيق تطلعاته في التحرر من الاحتلال وإقامة دولته المستقلة.
إن التضحيات التي تتدفق مع كل صباح، متدثرة بأهازيج الوداع وهدهدة الثكالى، وكفكفة الدموع المترقرقة على وجنات المفارقين لأحبتهم تحت الثرى أو في غياهب السجون، تاركة الحسرة غائرة في جوف الألم وعزائم الصبر والفخر؛ هذه التضحيات آن لها أن تستغل الاستغلال الأمثل الذي يساعد على تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني ويضع حدا نهائيا لمعاناته، فهو يضحي بأغلى ما لديه، يضحي بأبنائه وزهرة شبابه.
إن الدم الفلسطيني أغلى بكثير من أن يُضحى به في عمليات انفعالية غير مدروسة تقتصر نتائجها الفعلية على تكريس صور البطولة والحماسة، ومشاعر الألم والحسرة، ولا تؤثر فعليا في تحقيق الأهداف والتطلعات التي اندثرت تحت ركام الانقسامات والمهاترات والإعاقة السياسية.
تتشابه السنوات والعقود التي تمرّ على الشعب الفلسطيني، فلا تجد فروقا بينها إلا في عدد القتلى والجرحى والمعتقلين، وعدد البيوت المهدّمة وأشجار الزيتون المقتلعة أو المحروقة، وعدد العالقين على المعابر، والمحرومين من العلاج، والمتكدسين على أبواب المؤسسات الإغاثية، والمتزاحمين في طوابير البطالة، والباحثين عن سبل الهجرة بأي ثمن، حتى لو كان على حساب الأهل والوطن. في كل صباح، يستيقظ الشعب الفلسطيني على أخبار المواجهات والعمليات والشهداء والجرحى والمعتقلين، ويودعهم على عجل آخر النهار ليستعد لاستقبال الفوج في صباح اليوم التالي.
في هذه الصباحات الممزوجة بالدماء والجثامين والرايات المتخالفة، والطلقات الطائشة، والزغاريد الحزينة، تطل على الشعب الفلسطيني ذات الوجوه الصفراوية المتبلّدة، بألسنتها المتيبسة ليسمع منها الأحاديث نفسها التي طالما سمعها منها منذ عشرات السنين.
هذه الحالة لا تخص الشعب الفلسطيني القابع تحت الاحتلال والحصار فحسب، بل تشمل الشطر الثاني من الشعب الفلسطيني في الشتات وفي دول الاغتراب. وحديثنا عن تضحيات الشعب الفلسطيني في الداخل هو فقط من باب الواقع اليومي للمواجهات مع الاحتلال الصهيوني، دون التقليل من حجم وقسوة العذابات التي يذوق فيها الشعب الفلسطيني في الشتات يوميا من ألوان المعاناة والاضطهاد ما لا يعرفها إلا هو. هذا الشطر من الشعب الفلسطيني طال عليه انتظار العودة، بعد أن تحوّل الوطن إلى دواوين شعرية، ومنشورات خطابية، وأناشيد حماسية، وتضحيات (…) دون أي مشروع سياسي حقيقي قادر على إحياء الأمل بالعودة وإنهاء المعاناة.
ولذلك أعتقد أنه آن الأوان لنتساءل حول هذه التضحيات:
ما طبيعتها ودوافعها وجدواها؟
وعما إذا كان هذا الشكل النضالي هو الشكل الأمثل للمقاومة وتحرير الوطن؟
هل هي عمليات فردية ارتجالية مدفوعة بنزق الشباب ودوافع الثأر والانتقام؟
أم عمليات مدروسة ومنضبطة وممنهجة وذات أهداف محددة؟ من المسؤول عنها؟
من الذي يخطط لها ويديرها؟ ما النتائج المترتبة عليها سياسيا واجتماعيا؟
وهل هذه النتائج تخدم مشروع التحرر الوطني الفلسطيني أم تعوقه؟ وأين هو هذا المشروع الذي يتأثر بنتائج هذه التضحيات؟ ما دور القيادة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة تجاهها؟
وهل تكفي بيانات الشجب والإدانة والتهديد والوعيد؟ من يتحمل مسؤولية الدم الذي يراق في هذه التضحيات، والكوارث الاجتماعية المترتبة عليها؟
متى سيقتنع الفلسطينيون أنهم ما لم يصلحوا بيتهم ويوحدوا صفهم ويجمعوا كلمتهم على قيادة واحدة وبرنامج وطني مشترك ومحدد للتعامل مع الاحتلال؛ فلن يكون هناك أي جدوى من الاستمرار في تقديم هذه التضحيات؟
الدم الفلسطيني أغلى من الذهب والماس
أرجو ألا يُفهم حديثي هذا على أنه دعوة إلى الانهزام والخنوع والاستسلام للكيان الصهيوني، وإنما هو دعوة لترشيد النزيف الفلسطيني والتضحيات الفلسطينية لصالح مشروع التحرر الوطني وتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، والحقوق المسلوبة لا تستعاد دون قوة ودون تضحيات.
ولكن الدم الفلسطيني وأرواح الشهداء الذين يتساقطون على تراب الوطن المحتل دون جدوى توازي حجم التضحية؛ أغلى بكثير جدا من الذهب والماس، وإن من يتاجر في الذهب والماس يحرص على كل ذرة منها، ولا يفرط بشيء منها دون مقابل يزيد على قيمتها الحقيقية. والشاب الفلسطيني الذي يستشهد في عملية طعن أو إطلاق نار أو اصطدام، يصيب فيها أو يقتل أحد أفراد الجيش أو المستوطنين الصهاينة، بإمكانه أن يحقق نتائج أفضل بتضحيات أقل، ولكن لكل شيء حساب وتدبير، ولا يصح أن تكون تجارة الأرواح والدماء أقل قيمة من قيمة الذهب والماس.
كما لا يصح بتاتا أن يكون مشروع التحرر الوطني للشعب الفلسطيني مشروعا هلاميا أو طوباويا أو مستحيلا، ولا يصح أيضا أن يكون لكل فصيل أو حزب تصوره الخاص لهذا التحرر، فنجد عدة مشروعات للتحرر الوطني وعدة مسارات بعدد الفصائل والأحزاب، فتكون المحصلة النهائية صفر على مستوى تحقيق الأهداف، مع زيادة هائلة في حجم التضحيات والمعاناة التي تعزز وجود القادة والفصائل، وترفع الصوت في المنابر الوطنية والإقليمية، وتغذّي وسائل الإعلام وقرائح الشعراء والخطباء من كل حدب وصوب.
لا يقاس النصر بعدد الشهداء والجرحى والمعتقلين، ولا بحجم المعاناة والألم والحسرة، وإنما يقاس بتحقيق الأهداف وانتهاء مبررات القتال والمقاومة. وإن من حق الشعب الفلسطيني الذي يقدم هذه التضحيات، أن يسأل قادته إلى متى سيستمر في تقديم هذه التضحيات دون جدوى محددة لصالح الهدف.
ربما يرى البعض أن هناك دورا كبيرا تلعبه هذه التضحيات في المحافظة على إحياء القضية الفلسطينية مشتعلة في زمن التخاذل العربي والدولي، وقضّ مضاجع العدو وتشتيت تفكيره وإفشال خططه، ومقاومة المشروع الصهيوني، وإشعار العالم بصلابة الموقف الفلسطيني وإصرار شعبه على استعادة حقوقه. وجميع هذه الأدوار موضوعية، ولكن ينبغي ألا يتم القيام بها على النحو الذي يجري حاليا، وإذا كانت القيادة الفلسطينية عاجزة عن استثمار إمكانات الشعب الفلسطيني وقدرته على الصمود والمقاومة لصالح تحقيق آمال وتطلعات الشعب الفلسطيني واستعادة حقوقه المشروعة، فعلى الشعب أن يقول كلمته ويبدأ صولته.