لم تسع الفرحة قلب والدة الشاب الطبيب محمد العصيبي (26 عامًا) حينما احتفلت بعودته إلى بلدة "حورة" في النقب المحتل نهاية يناير/ كانون ثاني الماضي قادمًا من رومانيا، مع تبقي امتحانه الجامعي الأخير في يونيو/ حزيران القادم ليعود بشهادة الطب التي لطالما حلمت بها أمه.
كان محمد وهو الابن الأكبر بين أربعة ذكور إضافة إلى ثلاث شقيقات أملًا لوالديه، فدرس الطب خصيصًا للسهر على رعاية أمه المريضة، ووالده الذي يعاني أمراضًا مزمنة وضيق تنفس ويمضي معظم وقته على أجهزة التنفس الاصطناعي يُلازم فراشه.
صباح الجمعة الماضية ودّع والده المريض، ووعده بعودة سريعة لرعايته "إن شاء الله بشوفك في المساء"، وغادر الطبيب قريته متجهًا للصلاة بالمسجد الأقصى للمرة الثانية منذ قدومه، مع بدء الدعوات والنداءات لشدّ الرحال إلى المسجد لمن يستطيع من أهل الداخل المحتل والضفة الغربية، فكان من الملبين.
أدى صلاة الظهر برفقة ربع مليون مصلٍّ، احتشدوا بساحات الأقصى، لكنه ظلَّ برفقة العشرات حتى ساعات المساء عازمًا الاعتكاف بالأقصى، والمبيت، إلا أنه امتثل لطلب والدته بالعودة إلى بلدته.
واجب مهني
وخلال مسيره للخروج من أحد أبواب الأقصى، لم يتوانَ الطبيب من أداء واجبه المهني، حينما رأى فتاة فلسطينية جريحة نتيجة اعتداء شرطة الاحتلال عليها عند باب السلسلة، فحاول تقديم الإسعافات الأولية لها، ليمنعه الجنود، فاعترض واحتج على منعه، كما روى شهود عيان لعائلته، فعاجلوه بـ20 رصاصة اخترقت جسده وارتقى شهيدًا.
انتظرت أمه سبع سنوات بقيت منها عدة شهور حتى تستقبله بردائه الأبيض، لكنها فتحت أبواب البيت لاستقبال جثمانه محمولًا على أكتاف المشيعين بكفنٍ أبيض يغطي جسده.
تُبلّل الدموع صوتها الضعيف في غمرة الأحزان قبل دقائق من وصول جثمان نجلها إليها، لحظة اتصال صحيفة "فلسطين" أمس: "محمد إنسان طيب حنون يحب مساعدة الآخرين لا يؤذي أحدًا، سبع سنوات انقضت ونحن ننتظر لحظة تخرُّجه، كنت أنتظره على أحرّ من الجمر، فقضوا عليها في لمح البصر".
اقرأ أيضًا: بالصور إضراب عام في الداخل المحتل ردًّا على جريمة إعدام الشهيد "العصيبي"
يتباطأ مشهد اللحظات الأخيرة أمامها: "خرج في الصباح وطلب إذني للذهاب لصلاة الجمعة والتراويح في المسجد الأقصى، فأذنت له، قبّل جبيني كما يفعل كعادته وخرج، ورفضت أن يعتكف".
سافر محمد لدراسة الطب، وهو يحمل على عاتقه همَّ علاج والده المريض، وليخدم وطنه وبلدته، فعاد إلى والدته بشهادة أخرى، تُعلّق بكلمات ممتلئة بالإيمان والدموع كذلك: "أعطاه الله شهادة أكبر وأجمل من الشهادة التي كان يريد الحصول عليها".
تتهم والدته الاحتلال بـ "الافتراء والكذب" للتغطية على جريمته، واصفةً إياها بأنها أبشع "جريمة عرفها التاريخ بحقّ طبيب لديه نخوة وشهامة أراد إسعاف فتاة جريحة فأُعدم بدم بارد".
"كنا سعداء بعودته من رومانيا بعد غياب استمر عامين، ننتظر بفارغ الصبر وبلهفة شديدة تقديمه امتحانه الدراسي الأخير ليعود بشهادة الطب، خطّطنا أن نقيمَ حفلًا كبيرًا له، كان سعيدًا بحضور رمضان معنا بعد غياب" بكلمات يجرُّها الفقد تقول شقيقته ليلى لصحيفة "فلسطين".
على مدار عدة ساعات بعد حدوث المواجهات وعدم ردّه على اتصال عائلته، ذهبت كلُّ توقعات إخوته أن يكون عائدًا إلى البيت وسيصل بعد لحظاتٍ، لكنّ قلب شقيقته كان يستشعر القلق كلما تأخّر بالعودة مع اقتراب منتصف الليل: "بقينا في حالة انتظار وترقُّب، حتى فجر السبت عندما جرى نشر اسمه أصابتنا حالة صدمة، لم نُصدّق الخبر، حتى اللحظة نشعر أننا في حلم".
ترد له شيئًا من الجميل، وإن كان بكلمات تمدحه بها: "أخي شابٌّ بسيط خلوق يحب مساعدة الناس، الكلّ يشهد بأخلاقه كلّ الكلمات الجميلة لا يمكن أن تصفه، في آخر يومه استيقظ وصلى الفجر وانطلق نحو القدس، وصلى الجمعة بالمسجد الأقصى، وفي المساء اتصل على أمي طالبًا المبيت، فرفضت وطلبت منه العودة".
زاوية ليست "ميتة"
ادّعى الاحتلال أنّ الكاميرات لم تسجل جريمة إعدام الطبيب لوقوعها في "زاوية ميتة"، وهو ما تهكّمت عليه شقيقته التي امتزجت كلماتها بين التهكم والغضب في آنٍ واحد: "الجميع يعلم أنه لا يوجد موضع قدم إلا وبه كاميرات مراقبة في الأقصى، لكنهم لا يريدون أن يكشفوا بشاعة جريمتهم بإعدام طبيب حاول إسعاف فتاة جريحة، لأنه صاحب نخوة وشهامة".
تمنح نفسها بعضًا من التماسك، تستحضر صورته في الأسبوع الأول في رمضان قائلة: "كان سعيدًا بأنه يجلس معنا على مائدة إفطار واحدة، وبصلاة التراويح، خاصة أنه يحرم من هذه الأجواء أثناء دراسته في دولة رومانيا، وهناك يُجهّز الطلبة طعام الإفطار بمفردهم".
تبكي رحيله: "لطالما كان طموح أخي دراسة الطب منذ صغره، بنى حياته على هذا الحلم الذي مات في آخر محطة متبقية".
خاله عبد الودود العصيبي كان شاهدًا كذلك على حلم محمد بدراسة الطب قائلًا: "كان لديه برنامج واضح بأن يصبح طبيبًا لمساعدة والديه المريضين، اللّذين بَنيا عليه شيئًا كبيرًا للمستقبل بأن يصبح طبيبهما، وكانت تقع عليه مسؤوليات العائلة بأكملها خاصة والده الذي يعاني من ضيق تنفس".
نال محمد الشهادة في باحات المسجد الأقصى قبل امتحانه الجامعي الأخير، في لحظة كانت عائلته تستعد لقرع طبول الفرح بشهادة الطب، وهو يرتدي الرداء الأبيض، فعاد إلى أمه بعد سبع سنوات من الانتظار بكفن أبيضٍ.