دائمًا ما كانت الرؤية العربية لـ(إسرائيل) مفترقة في عينين اثنتين -في حالة أشبه بالحول- واحدة ترفع هذه الـ(إسرائيل) فوق مستوى الاجتماع البشري، بضخّ القدرات البشريّة مجتمعة فيها، من دعم دوليّ لا يتخلّف، ومن قدرات ذاتيّة متفوقة فكرًا وسلاحًا وعلمًا وتنظيمًا لا تتآكل، والثانية تنحطّ بها عن سنن الاجتماع البشري، وتجعلها في طور الزوال الآني، الذي لا يمكن أن ينتظر حتّى الغدّ، ومع ذلك فإنّها طوال خمسة وسبعين عامًا، لم تزل تثبت أنّها ليست استثناء مما يجري على غيرها من المجتمعات، دون أن تزول على الفور في كلّ أزمة!
لا يعني ذلك أن (إسرائيل) ليست استثناءً -لا في جوهرها-بل في بنيتها التاريخية، فهي مستوطنة كبرى منتظمة من مجاميع مفترقة من المستوطنين، في وسط جغرافي لا تمتلك فيه مبررًا تاريخيًّا ولا اجتماعيًّا، ولأنّ التشكّل في هذا الوضع ظاهره الاستحالة، فقد أمكن حصوله في لحظة تاريخية حاكمة هي لحظة الانتداب البريطاني.
هي والحالة هذه، مستوطنة مصوغة من ظرف دوليّ تاريخيّ، ليكون العامل الدولي حاسمًا في قوّتها واستمرارها، ثمّ هي في ذاتها أدركت أنّ الاستحالة المكانية واحتمالات التغيّر الدولي، تتطلبان تنظيمًا خاصًّا للمستوطنة المسماة دولة، يقوم على أيديولوجيا أسطورية، معجونة من ادعاء المظلومية وفي الوقت نفسه التعبئة بالقدرة الدائمة على التفوّق، وعلى التنظيم العسكري اللازم لصهر المادة الاستيطانية في بنية واحدة. وهذا التنظيم ينبغي أن يكون متفوقًا بالنسبة للمحيط المعادي، ومتعاليًا على البنية الاستيطانية نفسها، لأجل أن يبقى صالحًا بوصفه وعاء صهر وضبط وتنظيم وقدرة على تعقّل المخاطر ومعالجتها بعيدًا عن استقطابات هذه البنية وتناقضاتها.
موقع الديمقراطية وسلطة القضاء من ذلك كلّه، متشابك مع كلّ ما سبق، فلحظة التشكّل الناجمة عن اللحظة التاريخية الدولية، تطلّبت التشبّه بالصانع الغربي -المثل الاستعماري الأعلى- الذي هو عامل الضمان الموضوعي، ولأسباب دعائية كذلك للامتياز عن المحيط المعادي، وفي الوقت نفسه كانت دائمًا حاجة ذاتية، من حيث التعبئة بالامتياز، والحاجة إلى ما ينظم ذلك الشتات المتداعي إلى فلسطين بالاستيطان بما يمنع انفجار تناقضاته داخل هذه البنية.
عوامل التمكين الذاتي كانت في ذاتها تحمل معها نقيضها، فالتأسيس الغربي العلماني للمستوطنة، كان يحتاج أيديولوجيا تعبئة استيطانية، لا بدّ منها لتحويل المستوطنة إلى دولة بسكان؛ تجعل منها ذات قيمة ديموغرافية، وترجح بها على المجموع الفلسطيني، وكذلك للاستثمار في البيئة الاستراتيجية الجديدة الناجمة عن احتلال الضفة الغربية. هذا الاستقطاب الاستيطاني، كان آخذًا بالتدريج في خلق فجوة اجتماعية بين الشريحة الاجتماعية الغربية التي انبثقت منها النخبة التي قادت (إسرائيل)، وتمتعت طوال الوقت بفرص التفوق الاقتصادي، والنفوذ السياسي والعسكري والأمني، وبين المادة الاستيطانية، التي لم يكن يُنظر إليها إلا بوصفها حَبًّا في طاحونة تلك النخبة.
ولأنّ مادة الاستقطاب اعتمدت على توظيف ديني/ تاريخي، كان لا بدّ من إجراء تسوية مع الحريدية الدينية غير الصهيونية، فظلّت تقدّم التنازلات لهذه الشريحة، التي يُستفاد منها في تغطية دعاية الاستقطاب الصهيوني، وخلق هوية أسطورية للدولة/ المستوطنة، وفي رفد المجتمع الإسرائيلي بالعنصر البشري الذي تحترف الحريدية إنتاجه. وقد أفضى ذلك إلى وجود شريحة طفيلية كبرى، لا تخدم في الجيش، ولكنها تتفرغ لدراسة التوراة ولإنتاج العنصر البشري، وهو ما رأت فيه الشريحة الأكثر ثراء ونفوذًا من جهة أخرى طفيلية مستقذرة.
دعاية الاستقطاب الديني، والحاجة "القومية" لها، أنتجت بدورها الصهيونية الدينية، المختلفة عن الحريدية، والتي وعلى نحو ما، سوف تعيد بعد عقود طويلة من عمر دولة الاحتلال إنتاج منظمة "إيتسيل" (المنظمة ذات الشعار الذي يضمّ الأردن إلى (إسرائيل)، كذلك الشعار الذي على المنصّة التي خطب من عليها زعيم حزب الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريش أخيرًا)، المتمردة على قيادة الييشوف والحركة الصهيونية في ثلاثينيات القرن الماضي، وبقدر ما أظهرت ايتسيل شيئًا من المرونة، لتندمج تاليًا مع الهاغاناة عصب جيش الدولة/ المستوطنة، فإنّ الصهيونية الدينية الممتدة من أفكار الحاخام تسيفي يهودا كوك، تمتعت بقدر مشترك من التصميم والمرونة، بالدفع نحو اختراق الجيش والسياسة في (إسرائيل)، بيد أن سعي بنيامين نتنياهو لإرضاء جملة تجليات هذا الفريق، انتهى به للموافقة على تأسيس "حرس وطني" مختلف عن الشرطة، يتبع زعيم حزب "القوة اليهودية" إيتمار بن غفير!
قد يكون من المفارقات التاريخية أنّ "الانقلاب اليميني الإسرائيلي" في أواخر سبعينيات القرن الماضي، ومن ثمّ اعتماد الليكود سياسات اقتصادية ليبرالية، وتصاعد ذلك مع سياسات نتنياهو الاقتصادية، قد أفضى إلى خدمة النخبة المنحدرة من الشريحة المؤسسة، بيد أنّ هذه النخبة تحديدًا هي التي تشعر اليوم أنّها مهددة من "إصلاحات نتنياهو الاقتصادية"، فنخبة الجيش والأمن ظلت الرافد الأهمّ لشركات التقنية العالية، والتي يمثّل قطاعها اليوم عنصرًا مهمًّا ضدّ خطة نتنياهو "الإصلاحية"، ليس فقط لأنّ هذه "الإصلاحات" حينما تحوّل السلطة القضائية إلى ذراع للسلطة السياسية تهدّد الشفافية اللازمة للاستثمار، ولكن أيضًا لأنها قد تنتهي إلى فرض شروط قطاعات أخرى، بنمط حياة مختلف، ظلّ يُنظر إليها بكونها شرائح اجتماعية درجة ثانية.
من نافلة القول إنّ قيادة الليكود كانت إشكنازية دائمًا، ما يعني أنها من النخبة التي استفادت من التحوّل الاقتصادي في المستوطنة/ الدولة، ليتجلّى الموقف على نحو أكثر تعقيداً من أن يكون فقط شرقيين وغربيين، أو يميناً ويساراً، أو متدينين وعلمانيين، أو مستوطني الضفة والقدس وسكان (غوش دان) وقلب (تل أبيب)، فالأمر ذلك كله، بالإضافة للعقدة التي ظلّ نتنياهو يُحكِمها حول رقبة (إسرائيل) آخر عقدين، لينتهي به الحال محتاجاً للتحالف مع قوى متباينة، تسعى كلّ واحدة منها لفرض شروطها عليه. فبالإضافة إلى الأوساط الليكودية التي تحمل موقفاً معادياً للمحكمة العليا، فإنّ هذه فرصة الحريديم لتعزيز مكاسبهم، وفرصة الصهيونية الدينية لفرض رؤيتها، في لحظة قد لا تتكرر.
الخلاف ليس اجتماعيّاً محضاً ولا سياسيّاً صرفاً، وهو بطابعه المركّب هذا يجعل القول بأنّ التناقض الإسرائيلي الجاري، سيُخرِج (إسرائيل) أكثر قوّة أقلّ رجحاناً، إذ ما يجري الآن مآلات لعملية تاريخية طويلة، صاحبت تأسيس المستوطنة/ الدولة، وانفجرت مرّات عدّة في وجهها طوال تاريخها، لكنها هذه المرّة أكثر حدّةً وتعقيدًا واستفحالًا بما قد ينتقل بها نحو مآلات أكثر خطورة عليها.
لقد ظلّ قادة هذه المستوطنة المسماة (إسرائيل)، يتحدثون دومًا عن الخطر الوجودي، نتيجة "الاستحالة المكانية"، أي الوسط العربي المعادي والصمود الفلسطيني، لكن الانتقال الآن للحديث عن الخطر الوجودي نتيجة الأسباب الذاتية. بعض هذه الأسباب الذاتية كانت من مكونات هذه المستوطنة، ولوازم وجودها، وبعضها من ضمانات قوتها وتفوقها، لأنّ الاستثناء المتمثل في عملية الاصطناع من اللا شيء بالضرورة يحمل عوامل التفكّك، وبالتحديد حين وضعه إزاء "المكان المستحيل"، ومن ثمّ فلا الاستثناء الإسرائيلي يعني تفوقًا أبديًّا، ولا ما ينطوي عليه من عوامل تفكّك يعني الزوال الآني عند كل انفجار لتناقضاته الداخلية!