الرضى بما قسمه الله لنا من أرزاق، من أعظم درجات الرضى التي تودع في القلب السكينة، ولكن البعض لا يرضى بالربح القليل فيطمع بالمزيد حتى وإن اضطر إلى التحايل، واتباع أساليب ملتوية لزيادة "رزقه"، فلا يجني في النهاية إلا الخسران.
يروي الباحث الفلسطيني في الأمثال الشعبية ادريس جرادات، قصة مثل "الطمع ضر ما نفع"، إذ يروى أن عيسى ابن هشام وهو رجل من دهاة بغداد، شعر بالجوع يومًا، فخرج من بيته يطلب الزاد، فإذا بسواديٍ (بائع الكبد) يجر بالجهد حماره، ويطرف بالعقد إزاره.
نظر ابن هشام نظر نحو السوادي يحدثُ نفسه "ليس في جيبي نقد، ولكني ظفرت والله بصيد"، نادى عليه "حياك الله يا أبا زيد، من أين أقبلت ومتى وافيت، هلم بنا إلى البيت".
فقال السوادي: لست بأبي زيد، ولكني أبا عُبيد، فقال ابن هشام: نعم تذكرت لعن الله السلوان وأبعد عنا السهو والنسيان، كيف حال أبيك أشاب كعادي، أم شاب بعدي؟، نبت الربيع على دمنته (كناية عن قدوم موته)، وأرجو أن يخلد في جنته.
ما إن سمع صاحبنا العبارة راح يتصنع البكاء بحرارة، ومد يده بخبث محاولًا تمزيق الصِدار، فمنعه أبو عبيد ممسكًا به، ثم هم بالفرار، ولسان حال الفكِه يقول ما باله هذا الجهول.
نادى ابن هشام على السوّادي: توقف توقف، تعال معي إلى البيت نصُب الغداء، أو إلى السوق نشتري الشواء وهو أقرب، وطعامه أطيب.
وصل ابن هشام، والسوّادي إلى محل الشواء، ودعاه "تفضل بالجلوس يا أبا زيد، سنطلب كل ما تريد".
ردد السوّادي في سره "أنا أبو عبيد، لكن لا فرق عندي، فالمهم تناول اللحم، إن كنت أبا زيد، أم أبا هندي".
قال ابن هشام هاتوا إلى أبي زيد رطلًا من الشواء، وأرسلوا من يأتينا بمثله من الحلواء، وانضدُ لنا على اللحم أوراق الرقاق، ورشوا عليه القليل من السماق.
التهم الرجلان الطعام وكأنهما في سباق، وبسرعة البرق، فرغت الأطباق، ومن دون أن يعلم السوّاديُ متى، وكيف انسل ابن هشام خارجًا من أمام الضيف بحجة أنه سيجلب مثلجًا ليشرب، ومن بعيد راقب ردة فعله بعد أن هرب.
حدث السوّادي نفسه "لا بد أنه لأمر مهم أطال الغياب، ها وقد حل المساء لذلك عليّ الذهاب"، وثم هم بمغادرة محل الشواء، وإذا بصاحبه يصرخ عليه "هيّ إلى أين تذهب، ولم تدفع ثمن ما أكلت؟"، قال السوادي: "ولما تصرخ تناولته ضيفًا وبدعوة حللت".
سدد إليه صاحب المطعم لسوادي بعض اللكمات، مرددًا "متى نحن دعوناك، أخرج النقود وادفع ما عليك، قبل أن أقتلع عينيك"، قال السوّادي: كم قلت لذلك القريد أنا أبو عبيد، وهو يصر ويقول أنت أبو زيد.
من بعيد تابع ابن هشام ما يجري بين السوّادي، وصاحب محل الشواء، وأخذ ينشد:
أَعْمِلْ لِرِزْقِكَ كُلَّ آلـهْ *** لاَ تَقْعُدَنَّ بِكُلِّ حَـالَـهْ
وَانْهَضْ بِكُلِّ عَظِـيَمةٍ *** فَالمَرْءُ يَعْجِزُ لاَ مَحَالَهْ