فلسطين أون لاين

الحكواتي

"الحكاية فيها إنّ"

...
الحكواتي
غزة/ مريم الشوبكي:

قد ينشب خلاف بينك وبين شخص ما، ويصل الأمر إلى قطيعة تمتد أشهرًا، وتقرر في لحظة أن تبتعد كسرًا للشر، وتجنبًا للأذية، فتتفاجأ بلين القول من الطرف الآخر، متعجبًا من سماحته غير المتوقعة، يخبرك حدسك بأن "الحكاية فيها إنّ". 

مثلنا اليوم، يقص حكايته لـ"فلسطين" الباحث في التراث الشعبي إدريس جرادات، فقد حدثنا الراوي يا سادة يا كرام أن أميرًا في حلب يدعى عليّ بن المنقذ، عرف بفطنته، وذكائه الفذّ، وكان يتبع للحاكم محمود بن مرداس، شديد البأس، صعب المراس، وذات يوم اختلف الأمير مع الحاكم، ففر من المدينة خوفًا من بطشه، وطلبًا للسكينة.

لكن ابن مرداس لم ينسَ الطريدة، وفي السر راح يعد له المكيدة، فنادى حاجبه ليرسل له في طلب الكاتب، على الفور رد سمعًا وطاعة يا مولاي.

حضر الكاتب ودار بينهما الحوار التالي: أسعدت صباحًا يا حاكم الزمان، إنني طوع الأمر، والبنان.

الحاكم: أريدك أن تخط رسالة لابن منقذ الأمير، توصله مني السلام والتقدير، وتخبره أن يعود إلى حلب، لأعطيه الأمان وكل ما طلب.

الكاتب: سمعت فأطعت ولأمرك خضعت، شعر الكاتب بأن في طلب ابن مرداس أمرًا فحدث نفسه: "والله لإنه يدس السم في العسل، لكني مرغم على تنفيذ العمل، لأنه بعد وقت سيقرأ حتمًا ما كتبت، إنني في ضيق كيف أحذر الأمير الصديق".

وصلت الرسالة إلى الأمير ابن المنقذ، حملها إليه فتى من فتيانه "سمو الأمير جئتك على عجالة وصلتك من الحاكم رسالة، ليرد الأمير "هاتها في الحال يا فتى، لنقرأ ما فيها قد أتى".

سيطرت معالم التعجب على ملامح الأمير فقال في سره "غريب أمر هذا الحاكم أن يدعوني للعودة، ويغلظ المواثيق والعهود، ولكن ما هذه العبارة؟ في نهاية الرسالة "إنشاء الله تعالى" يجب أن تكون "إن شاء" وصديقي الكاتب ليس بخطّاء، كأنه يقصد قول الله تعالى: "إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ "لعمري إنها لمكيدة والخطأ مقصود، يحذرني فيه ألا أعود".

رد الأمير ابن المنقذ على رسالة الحاكم بمثلها، وما خفي كان أعظم، وصلت الرسالة إلى حاكم حلب، وقد بدت في الظاهر عادية، يشكره فيها على ثقته به وحسن النية، وختمها بعبارة "إِنّ الخادم المُقر بالإنعام".. وكانت إن بكسر الهمزة وتشديد النون. 

حينها عرف الكاتب أن الأمير قد فطن الرسالة وقال: "أحمد الله أن الأمير فهم ما أريد ورد عليّ بذكاء فريد، فقد قصد بذلك قول الله تعالى: "قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا".

وبذلك لم يعد ابن المنقذ الحساس إلى حلب، ولم يكن له فيها مداس، طوال حكم ابن مرداس، لأن الحكاية فيها إنّ، وأصبح هذا القول يضرب في الأفعال الغريبة التي يتخللها الشك والريبة.