لفتها صوته القادم من الخلف بعدما صادفها بالسوق بمدينة جنين: "يما، كيف حالك!؟"، استشعر قلبها الخوف الذي استبدلته بابتسامة تسأله عن سبب وجوده في سوق المدينة بعد الظهيرة، ليجيبها على عجلٍ: "هيني أنا ونضال طاشين، زهقانين من المخيم"، دخلت أخته في أطراف الحديث ممازحةً إياه نتيجة محاولته التمويه وإخفاء ملامحه من أي تعقبٍ: "حتى لو لابس نظارة سودا بعرفك من بين كل الناس".
بينما كانت تعتلي ملامح أمه نظرات القلق المصوبة نحو ابنها، تسارعت كلماته: "بدك شيء، على السريع؟، لأنه نضال بستناني"، ثم تلاشت ملامحه التي ظلت تلاحقها عيناها حتى اختفت آثاره عن نظرها وابتعد.
مضى نجلها يوسف الشريم (29 عامًا) وصديق طفولته وجاره ورفيق درب المقاومة نضال خازم (28 عامًا) لشراء بعض الملابس والترويح عن النفس بعيدًا عن حصارٍ يفرضه الاحتلال على المخيم ومطاردة مستمرة منذ عام، فيما دخلت هي وابنتها سلسبيل (27 عامًا) محلاً لشراء ملابس لابنها الأسير بركات (25 عامًا) الذي كانت على موعدٍ لزيارته الأحد الماضي.
قلبها ينعاه
لم تمضِ دقيقة على دخولها المحل، حتى خرجت كما خرج الناس على وقع أصوات إطلاق رصاصات هزت المدينة، رأت الناس يتجهون تجاه الطريق الذي سار به نجلها، فاخبرها قلبها بالخبر الذي نقلته لابنتها: "يوسف استشهد"، ثم تسارعت خطواتها، تسأل المارة بأنفاس يقطعها القلق: "وين الشيخ يوسف؟"، حتى وقفت أمام صديقه نضال ممددًا على الأرض مضرجًا بدمائه، بينما هدَّأ أحدهم مخاوفها: "يوسف مصاب، نقلوه على المشفى".
لكن الحال لم يدم طويلاً عندما اتجهت نحو المشفى لتجد مراسم التشييع قد بدأت، وحناجر الشباب الغاضبة تعلو مرددةً اسمه، في لحظة استسلمت فيها للقدر وعانقت جسده المليء برصاصات غادرة أطلقتها القوة الخاصة وجميعها اخترقت ظهره، انتفضت عيناها حزنًا وهي تلعن المحتل وتبكي بحرقة تكوي وجنتيها من القهر.
سبقت المشهد السابق تفاصيلٌ أخرى حدثت بالبيت، تتوقف أمه عندها، تسمع صوت هشاشة قلبها وهي تسرد لصحيفة "فلسطين" بقايا مشهد لم توثقه عدسات الكاميرات التي وثقت لحظة اغتيال نجلها ورفيقه من قبل قوة إسرائيلية خاصة تسللت ظهرًا لقلب مدينة جنين: "جاء للبيت واغتسل، سألته: وين بدك تروح، فقال لي: "بدي أروح أطش مع نضال، زهقان من المطاردة والمخيم، والضغط"، فأعربت عن خوفي، لكنه قال بنبرة إصرار: "توكلي على الله، الله الحامي".
يحفر الحزن مخالبه بصوتها الضعيف، وهي تستعيد ما علق في ذاكرتها من آخر اللحظات التي لم تنسَ أي منها: "طلبت منه ارتداء قميصا أبيضا، فقال لي: "بدي ألبس بلوزا سودا" وفي السوق كان يحاول التمويه بارتداء نظارات سوداء، وكان هو ونضال يرتديان نفس الملابس والنظارات يحاولان اخفاء ملامحهما، وهما بالعادة دائما يشتركان في شراء الملابس نفسها".
لقب ابنها بـ "الشيخ يوسف"، بعد رحلة طويلة في تعلم القرآن بمسجد المخيم عندما كان طفلا ثم بالجامع الكبير، حفظ القرآن كاملا وعددا كبيرا من الأحاديث النبوية، فكان دائما يحرص أينما تواجد عندما يسمع صوت الآذان على فرد سجادة الصلاة ودعوة الأهل أو الجيران أو أي مكان فيه، للصلاة وكان يؤُم المصلين.
تمدحه بعفوية: "ما شاء الله عليه، كان صوته جميل، بأي مجلس عائلة دائمًا بصحح لنا بعض الأشياء من خلال الأحاديث النبوية، الكل بنصت اله بالمجالس العائلية وكان دائما يحولها لحلقات ذكر".
لم يكمل نجلها تعليمه الجامعي، لكن هذا لم يمنعه من نهل العلوم الشرعية من العديد من الأئمة والمشايخ، وبموازاة ذلك تنقل بين أعمال مختلفة، فكان له بسطة خضار بسوق المخيم، وعمل بمحل معجنات، كان آخرها العمل بمحل عصائر "الرمان" قبل بدء مطاردته قبل عام.
كان التزامه دافعا لجهاز وقائي السلطة لأن يقوم باعتقاله عام 2018 لمدة ستين يومًا، تقفز تفاصيلها من ذاكرتها ويتقد صوتها بجمرات الغضب: "خلال اعتقاله لم أعرف عنه شيء، تم تعذيبه بشكل غير آدمي، وعندما اعتقلوه دخلوا عليه بالسوق عندما كان يبيع الخضار، وسحبوه من سترته التي تمزقت".
لم تعتقل أجهزة أمن السلطة يوسف بمفرده، بل اعتقلت معه صديقه نضال، ورغم تفريقهم بسجون مختلفة إلا أن صديقه كان يتابع ملفه مع المحامين من الداخل زنزانته، وأعاد الاحتلال اعتقالهما في 19 سبتمبر، أيلول 2019 بعد إفراج السلطة عنهما، لمدة ستة أشهر.
أصدقاء الطفولة والمقاومة
لا يفصل منزل نجلها عن صديقه سوى عشرات الأمتار، فنشأت علاقة صداقة بينهما منذ الطفولة ووثقت في كافة المراحل الدراسية، لا يفلت من ذاكرة والدته، مشاهد لعبهم وركضهم بين زقاق المخيم وهم أطفال، وصوتهم العذب وهم يرددون الأناشيد الوطنية في شبابهم، شراء الملابس نفسها، التواجد الدائم مع بعضهما فكانا "أخوة الدم ووطن وروح واحدة".
تدلل على عمق هذه الصداقة، بصوت لنجلها يطل عليها من الذاكرة عندما قال لها: "لو تغيرت على كل العالم، بتغيرش على نضال"، تعلق: "كانت روحهما قريبة من بعض، بينهم صفات مشتركة عديدة".
خلال التصدي للاقتحامات التي يشنها جيش الاحتلال على مدينة جنين ومخيمها، لم يفترق الصديقان بين زخات الرصاص وعيون القناصة، تعج ذاكرتها بمشاهد كثيرة عن ذلك، لكنها تتوقف عند اقتحام قوات الأخير الذي اغتالوا خلاله عبد الفتاح خروشة: "كانا من أوائل من تصدَّ للاقتحام، يتنقلان من بين البيوت، ويشتبكون، بعد انتهاء الاقتحام خرجت من البيت أبحث عنه، وجاءني بين حشد كبير من المقاومين وقبل يدي، وقال لي: "أنا بخير يما".
مساء 31 مارس، أذار 2022، اقتحمت قوات الاحتلال منزلها واعتدت بالضرب على جميع أبنائها، واعتقلوا ابنها بركات، ورهنت الإفراج عنه مقابل تسليم يوسف نفسه، وهذا ما رفضه، مستذكرةً اتصال ضابط مخابرات الاحتلال: "عندما رفضنا تسليم يوسف، هددنا وقال: "مش راح نرجع، بس بنعرف نجيبه".
لمدة عام ظل نجلها مطاردًا، اتبع كل وسائل التخفي عن جيش الاحتلال هو ورفيق دربه نضال: "لم يكن ينام بالبيت، في كثير من الأحيان كان ينام بين زقاق المخيم حتى يظل مستيقظا، يراقب حركة طائرات الاستطلاع الإسرائيلية في سماء المخيم".
امتاز يوسف بـ "الحنية والطيبة" كان صاحب حضور جميل لأمه، فعندما يدخل للبيت يبدأ بالمناداة عليها: "يمَّا"، وإذا لم يجدها يبدأ بسؤال أخوته أو مراسلتها عبر تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي.
هذه المرة ابتسم صوتها بجمال تلك اللحظات: "كان حضوره لطيفا وفكاهيا داخل البيت، يتخللها مشاحنات أخوية مع شقيقته الوحيدة سلسبيل، كنا مثل الأصحاب، عندما يجلس عندي يضع رأسه عند قدمي، يطلب مني أن أضع يدي على رأسه وكنت دائمًا أدعو الله أن يحرسه".
عندما كان يأتي متعبًا من الخارج، كانت وسادة والدته ملجأه للنوم والشعور بالراحة، صوت الحسرة يغادر قلب أمه: "كنت أحب ريحته، الله يصبرني على فراقه، المكان فضي".
لديها خمسة أبناء (بنت و4 ذكور) استشهد يوسف، ويواصل الاحتلال اعتقال نجلين، وهما محمود (25 عامًا) اعتقله الاحتلال عام 2017، وكان مقررًا الإفراج عنه في 19 سبتمبر/ أيلول 2021، لكنه جدد اعتقاله لأربعة أعوام بتهمة مساعدة أسرى نفق الحرية على انتزاع حريتهم في السادس من الشهر ذاته، ويواصل اعتقال ابنها بركات منذ عام، فبقي بالبيت سلسبيل وآدم (17 عامًا)، لمواساة جرحها.