آلاف النسخ من الجرائد الفلسطينية يحتفظ بها السبعيني طلال طه في أغلفة بلاستيكية شفافة، رتبها بالتاريخ، واليوم، والشهر، والعام، داخل مخزنين منفصلين في بيته، وتعود أقدم نسخة لديه لصحيفة القدس وصدرت في عام 1970م.
وقتها الحاج طه يبلغ من العمر 21 عامًا، ولا يزال يحتفظ بتلك النسخ من صحف القدس، والأيام، والحياة الجديدة، يوميًا منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا، وقبل 15 عامًا أضاف إلى جعبته صحيفة فلسطين الوحيدة الصادرة من قطاع غزة.
على مساطب حديقته الإسمنتية المتواضعة رص الحاج طه (73 عامًا) بعضًا من الصحف التي تحول لون أوراقها إلى الأصفر، والبعض الآخر قد تمزق بسبب عوامل الزمن.
يتجاوز عدد الصحف التي يمتلكها طه 70 ألف نسخة، ويحرص على تدوين اسمه، ورقم هاتفه، وعنوانه سكنه فوق "مانشيت" كل صحيفة، ليضمن عودتها إليها إذا ما استعارها أحد، فهو منذ لحظة إمساكه بالصحيفة يعتبرها جزءًا منه ويخشى فقدانها.
بمعطفه "الكاكي" وقبعته الصوفية الخضراء أخذ طه نسخة من صحيفة القدس صدرت يوم اتفاقية جبريل أو عملية الجليل هي صفقة لتبادل الأسرى جرت يوم 21 مايو من عام 1985 بين حكومة الاحتلال الإسرائيلي برئاسة شمعون بيريز والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وفيها صور وأسماء الأسرى المفرج عنهم، بعض الأسماء قد محي حبرها فتجده بقلمه الأزرق قد أعاد كتابتها.
كنز ثمين
كان طه قبل 50 عامًا، مع إشراقة كل صباح يحمل معه في طريقه إلى العمل "بليطًا" في الأراضي المحتلة عام 48 ثلاث نسخ من الجرائد يقرأها في طريقة ذهابه وإيابه إلى بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة.
يقول طه لـ"فلسطين": "لدي متعة كبيرة في قراءة الصحف، والاحتفاظ بها فهي كنز ثمين لا يقدره كثير منا، لا أقتنع بقراءة الأخبار عبر الهواتف الذكية والتي لا أحب حملها. لا أجد متعة إن لم أمسك أوراق الصحيفة وتقليبها بين أصابعي، فللورق رونق ورائحة مميزة".
ويضيف: "حينما توقف إدخال الصحف إلى غزة لمدة سبع سنوات، كنت أقوم يوميًا بإخراج نسخ قديمة لدي وأقرأها مرة ثانية، حتى أمارس شغفي في مطالعة الصحف، فلا أستطيع أن يمر يوم دون أن أقرأ جميع الصحف الفلسطينية".
ووصل بطه الحال إلى تبليغ من وردت أسماؤهم في دعاوى قضائية صادرة عن البلديات والمحاكم في قطاع غزة، بعد قراءتها، لظنه أن بعضهم قد لا يكون قارئًا شغوفًا بالصحف، ويمكن أن تمر الدعوة دون أن يكون لديه أي علم، ويخسر القضية، وهذا ما حصل بالفعل شخص تربطه به علاقة نسب تمكن من وقف دعوى قضائية ضده وحماه في مشكلة كانا على وشك الوقوع فيها.
ويلفت إلى أنه وقبل خمسين عامًا كان عدد موزعي الجرائد قلائل ويتواجدون في أماكن معينة، حينها كان يسير لمسافات طويلة حتى يشتري الصحف الثلاث، وبعدما تقدم به العمر وتوالت الأيام، أوكل المهمة لابنيه حيث يقوم كل منهما بشراء الصحف يوميًا لمدة شهر، ومن ثم يتم تداول الأشهر بينهما.
وحينما لاحت له الفرصة، وضع الحاج طه صندوقًا لحفظ الصحف مخصصًا لكل واحدة صندوقا، علقه في جدار باب بيته من الداخل، "لأن بعض النسخ كانت تتعرض لسرقة، أو يتم تمزيقها، حينها كنت يستشيط غضبًا عندما أفقد الصحيفة".
حب السبعيني طه الاحتفاظ بالأشياء لم يتوقف عند الجرائد، فبالإضافة إلى شهادته منذ المرحلة الابتدائية حتى استمارة الثانوية العامة التي ترك بعدها مقاعد الدراسة، يحتفظ بالبطاقة الشخصية لجده لأمه المولود في عام 1885م.
محفوظات من التاريخ
وفي مخزنه يحتفظ على أرفف مخزنه عدة التبليط التي يعود عمرها لأكثر من 40 عامًا، وسراج والدته يعود تاريخه تصنيعه لعام 1945م، وبطاقات سينما للمطربة اللبنانية سميرة توفيق كان قد اشتراها من سينما النصر في وسط مدينة غزة في ستينات القرن الماضي، وتمثال لوجهه قد صنعه من الجبس في العام 1973، وحافظ للمشروبات الساخنة "تيرموس" مزدوج تعود صناعته لعام 1976.
ولا تفارق الحقيبة "الكاكي" يد الحاج طه، يضع بها دفترًا ومجموعة من الأقلام، يسجل بها كل دعوة، أو إعلان تعزية قد تم وضعه على الجدران، أو مفترقات شوارع القطاع، ووصل به حب تدوين كل ما يراه إلى تدوين أسماء الأموات في مقبرة بيت لاهيا، ولا يزال يحتفظ بكروت دعوات الزفاف.
كما يحرص على تدوين أحداث يومه بداية من أئمة المساجد وخطبائها يوم الجمعة، باليوم، والتاريخ، والسنة، واسم الخطيب وصفاته، وسيرته بين الناس.