رائحة لم تعرف مصدرها لكنها استطاعت أن تخترق ذاكرتها لثلاثين عامًا مضت، عندما كانت تجلس إلى جوار والدتها وهي تصنع بحرفية عالية أفران الطين "الطابون".
اليوم تمارس الفلسطينية آمنة صلاح (58 عامًا) الدور نفسه في بلدة الخضر غرب مدينة بيت لحم، تلبي حنينها للنكهات القديمة بصناعة تل الأفران بشكلها التقليدي القديم، وتعمل على بيعها في الأسواق المحلية.
طين وماء وتبن، وأيدٍ قوية تلك هي المقومات اللازمة لتلك الصناعة، "ففرن الطابون يحتاج إلى نوع معين من الطين يسمى (الكلالة) وهي تراب صلصالي أصفر اللون، أحضره من البلدة القديمة".
وبهمّة قوية وعالية تخلط صلاح الطين والماء، ومن ثم تضيف إليه التبن حتى يصبح متماسكًا كالعجينة الطرية لتتمكن من تشكيله، وتسبق هذه الخطوة نقع الطين بالماء ليوم كامل قبل البدء باستخدامه ليتحلل ويُنقّى من أيّ شوائب كالحجارة.
وتضيف صلاح: "هذا النوع من الأفران كان أساس الفلاح في أرضه، وكان الطابون يوضع في بداية مداخل البيوت القديمة، أمّا اليوم فقد تبدل الحال واستُبدل الطابون بأفران الغاز والكهرباء وغيرها، ولكن من تربّى على خبز الطابون يحن لنكهته".
وتستثمر صلاح سطح منزلها لإحياء هذه الحرفة القديمة، وتساهم عبرها في إحياء التراث الشعبي الفلسطيني الذي غُيّب منذ سنوات طويلة، والذي يجب الاحتفاظ به كجزء من الماضي بعيدًا عن التحضر الذي يتغنى به البعض، وفي ظل محاولات الاحتلال الإسرائيلي سرقة التراث ونسبه إليه.
وتلفت إلى أن بعض المنازل البسيطة والقروية لا تزال تحتفظ بهذا الكنز التراثي، والذي تعده جزءًا من الهوية والفلكلور الشعبي الفلسطيني، تتجمع حوله النساء لساعات طويلة لطهي طعامهن.
مصنوعات الطين
ولا تقتصر صلاح على صناعة أفران الطين فحسب، بل أيضًا تستطيع أن تشكل من الخليط الذي تصنعه أشكالًا عدة كانت مستخدمة في الماضي كموقد لطهي الطعام، وكانون للنار، وخابية الطين (القطنية) وهي صندوق مصنوع من الطين وبه فتحة صغيرة لتجفيف الطين بعيدًا عن الحشرات والرطوبة.
وتقول: "بدأت بصناعة أفران الطابون كمصدر للرزق، ولاحقًا لامستُ حنين البعض لاقتناء هذا النوع من الأفران، وإعادة نشر ثقافة اقتنائه".
وتستغرق صلاح أربعة أيام حتى لتجهيز فرن الطين، إذ تقوم ببنائه على أربع مراحل، ففي اليوم الأول تبني قاعدة الفرن وتتركها لتجفّ، وفي اليوم الثاني تبني على حوافها، وهكذا حتى تصل إلى بناء مدخل الفرن.
ويحتاج هذا العمل إلى ظروف جوية خاصة أجواء الصيف الحارة لتساعد في جفاف الطين تمامًا، مشيرة إلى امتناعها عن ممارسة تلك الحرفة في فصل الشتاء.
وتمضي صلاح إلى القول: "من العجينة المعدّة لبناء الفرن، أُنهي إعداد أكثر من فرن في آنٍ واحد، ليكون لديّ بعد أربعة أيام ما يقارب ثمانية أفران، خاصة في حال كان الجو صافيًا وأشعة الشمس متوفرة"، وتبيع الفرن الواحد بما يقارب 200 شيقل.
وتعرب عن سعادتها بتمكنها من إحياء التراث ليس في بيتها فقط، بل أيضًا لدى زبائنها الذين أقبلوا على اقتناء أفران الطين، لافتةً إلى أن بعضهم يطلب منها عمل الفرن كتحفة صغيرة تضفي لمسة جميلة في إحدى زوايا بيته.
ولا يزال الطابون مستخدمًا حتى هذا اليوم في القرى والأرياف الفلسطينية، والمخبوز فيه ألذّ أنواع الخبز الذي يشتهيه سكان المدن.