لم يكف الاحتلال عن تكرار مجازره في جنين ضد الفلسطينيين، فقد ارتكبت قوات الاحتلال من جديد يوم أمس، مجزرةً بقتل ثلاثة فلسطينيين داخل سيارة كانوا يستقلونها في جبع قضاء جنين، سبقها بيوم تنفيذها مجزرة بشعة يندى لها الجبين، إذ قتلت بدم بارد ستة فلسطينيين، بدعوى تنفيذ عبد الفتاح خروشة -أحد الشهداء الستة- عملية حوارة التي قُتل فيها مستوطنان أحدهما جندي صهيوني، وعلى أي حال فإن هذه المسوغات تسوقها دائمًا سلطات الاحتلال لمواصلة سياسة القتل والاعتداءات الميدانية التي تنفذها يوميًا ضد الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة، ففي كل يوم يرتقي الشهداء وتقع الإصابات، وتُنفّذ الاعتقالات، وتُهدم المنازل، ويُنكّل بالأسرى، ويُقتحم الأقصى دون وجه حق، أليست هذه الجرائم استفزازاتٍ متعمدةً من قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين؟
حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة هي أكثر الحكومات الصهيونية إجرامًا وإرهابًا، فقد حطّمت الرقم القياسي بقتلها حتى كتابة هذا المقال ما يقرب من 78 شهيدًا منذ مطلع العام، فهل كلهم مقاومون لتسوغ قتلهم؟ والحقيقة أن معظم الشهداء أطفال ونساء وكبار سنّ، إذًا فالقضية ليست كما تدّعي سلطات الاحتلال، بل إن القتل هو سياسة ممنهجة اعتادت عليها لتحقيق مكاسب أمنية وسياسية وقانونية يسعى نتنياهو لتحقيقها، محاولًا تصدير أزماته الداخلية المتمثلة في التطرف والانقسام السياسي والسخط الجماهيري والتظاهرات اليوميّة الحاشدة ضده، بلفت الأنظار إلى خارج المشهد الإسرائيلي.
تحاول حكومة الاحتلال خلق حالة من الأمن الوهمي والمفبرك لدى المجتمع الإسرائيلي الذي لم يعد يشعر بالأمن والأمان، بسبب عنصريتها وتطرفها؛ لذا فهي تواصل التصعيد بالطرق العسكرية المختلفة لتحقيق إنجازات أمنيّة على جبهات متعددة أولها الضفة المحتلة -الخاصرة الأضعف- ولم تدّخر جهدًا في تطبيق الخطط الأمنية الإرهابية التي في جعبتها (كاسر الأمواج 2، والسور الواقي 2، وحارس الأسوار 2) لوقف الاحتجاجات العارمة ضدها التي تسعى لإسقاطها والتخلص من شرها.
فلم يتوقف الأمر عند حد إجرام قوات الاحتلال الإسرائيلي، بل إن أجهزة أمن السلطة أكملت الدور بالاعتداء على مسيرة تشييع الشهيد خروشة في نابلس ولم يهدأ لها بالٌ حتى أسقطت جثمانه المحمول على أكتاف مشيعيه، في مشهد مشين يشابه ما فعلته قوات الاحتلال بنعش الشهيدة شيرين أبو عاقلة.
هذه هي أجهزة السلطة التي حافظت في أحلك الظروف على خط التنسيق الأمني ساخنًا ومقدسًا، ولم تتوانَ أخيرًا عن تصعيد حملتها ضد المقاومين بالمطاردة والاختطاف والاعتقال، وهي بذلك تكون قد أدت دورها على أكمل وجه وزيادة، بتبييض الضفة من المقاومين على مدار العقدين السابقين، منذ قرار عباس في عام 2007 ، بحظر أي عمل مقاوم في الضفة، والذي أتبعته بجهد مركّز لتفكيك البنى العسكرية لحركات المقاومة على مدار السنوات الماضية من جهة، واعتمادها إستراتيجية البنية الأمنية التي رسمها الجنرال الأمريكي دايتون لأجهزتها الأمنية ضد أشكال عسكرة الانتفاضة من جهة أخرى.
ومع اندلاع الأحداث الأخيرة في الضفة، ولا سيما في جنين ونابلس، وظهور مجموعات المقاومة المسلّحة، مثل كتيبة جنين وعرين الأسود، ومؤخرًا كتيبة أريحا، فقد أعاقت أجهزة أمن السلطة تشكيل حاضنة فكرية وسياسية وقيادية وبرامجية وتنظيمية لتلك المجموعات لضمان استمرارها، بسبب العمل الدؤوب الذي بذلته الأجهزة لوأد واستئصال الجذور الفصائلية والتنظيمية على حد سواء.
صحيحٌ أن المقاومة في الضفة أربكت حسابات الاحتلال، الذي لم يتوقع مثل هذا السيناريو العصيب الذي زعزع استقراره وخلخل قواعده العسكرية والأمنية، بعد فترة هدوء وسكينة لأكثر من 20 عامًا؛ لما تؤديه السلطة من واجب أمني بالوكالة، ولم تكفّ السلطة عن هذا الدور وكل ما تدعيه بوقف التنسيق والتعاون الأمني غير صحيح، وكل ما يُقال بأن السلطة فاقدة للسيطرة على الأرض هو أيضًا غير صحيح، إذ نجدها تغض الطرف وتختفي تكتيكيًا -كعادة أجهزتها الأمنية- من المكان عند كل اجتياح أو عملية عسكرية إسرائيلية، ما يدلل على وجود التنسيق الأمني بينهما وتبادل الأدوار، وإلا فكيف تصل قوات الاحتلال إلى المقاومين بسهولة؟