فلسطين أون لاين

فرحة زوجة "ملايشة" بتحرره قبل شهر لم تكتمل

تقرير شهداء "جبع".. بدمائهم خطّوا رسالة حبٍّ وانتماءٍ لفلسطين

...
غزة-جنين/ يحيى اليعقوبي:

تمترست أمامه محاولةً ثنيه عن الخروج من المنزل، تخبره بوجود شيء عالق في حلقها أعمق من الحسرة، قابل زوجها نايف ملايشة (25 عامًا) كلَّ ما تشعر به بقبلة طبعها على جبينها عندما همَّ بالخروج من منزله الساعة الواحدة فجر أمس الخميس، ما إن تلقى اتصالًا هاتفيًا من صديقه سفيان فاخوري (30 عامًا)، أتبعها بكلمات أذابت مخاوفها: "بحبك كتير، بحب أولادي، كوني راضية عني وسامحيني".

علت ملامحها دمعةٌ امتلأت بهواجس وخوف بقيت تسيطر عليها حوّلتها لكلمات غادرت قلبها: "أنا مش راضية عن الروحة هاي"، بنظرات مودّع سألها: "بدك أكون مبسوط؟ خليني أروح وأستشهد"، وخرج لصديقَيه فاخوري وأحمد فشافشة (22 عامًا) اللذين يجلسان بسيارة اصطفت أمام منزله. 

قبل السادسة صباحًا، دوّت رصاصات كثيفة في سماء قرية "جبع" قضاء مدينة جنين كسرت حالة هدوء تعيشها القرية، لكن صوتها افتعل ضجيجًا في قلب زوجة ملايشة.

مكالمات دون إجابة

هرعت نحو الهاتف تتصل به دون أن يرد، تتسرب المخاوف إلى قلبها المثقوب بالقلق؛ تخشى أن تطل صورته شهيدًا، وهي التي لم تهنأ بفرحة تحرره قبل شهر من سجون الاحتلال بعد اعتقال دام عامًا ونصف العام أرهق شوق الانتظار قلبها، لا تريد أن يمزقه الحزن، لتطلّ صورته مضرّجًا بدمائه ممددًا على الأرض بجوار صديقيه بعد تعرضهم لاغتيال من قوة إسرائيلية خاصة.

في بيتٍ يضج بالمعزين، هم نفسهم الذين حضروا قبل شهر لتهنئتها بتحرر زوجها من سجون الاحتلال، تخرج الكلمات من دموع القهر لصحيفة "فلسطين" تروي نسرين ملايشة اللحظات الأخيرة مع زوجها نايف: "قال لي بعدما طلبت منه عدم الخروج: "أنا مش أحسن من أي شهيد بالدنيا"، عندما اتصل به صديقه سفيان وسأله: "بدك تطلع"، حاولت ثنيه خوفًا على حياته، لكنه بقي مصممًا: "بدك أكون مبسوط، خليني أروح وأستشهد"، فتركته، ورافقته دعواتي: الله يحميك ويسهل أمرك".

تاهت كلماتها بين ألم ووجع، أثقلتها الدموع: "منذ صغره وهو يطلب الشهادة، عاهدني أنه سيعود في الصباح لكنه لم يعد، كان حنونًا يحب أولاده لا أذكر أنه جرحني، تقبله الله مع الشهداء وقدّرني على تربية طفليه".

قبل شهر عاشت أجمل لحظة بتحرره، مشهد لم تقفز عنه ترويها بصوت تبلله الدموع: "كانت أجمل لحظة بعد غيابه الذي استمر عامًا ونصف العام، كبر طفله أحمد وأصبح بعمر ثلاث سنوات، وولدت طفلتي التي لم يرها وأصبحت بعمر عام وشهرين".

أصوات رصاصات

من زاوية أخرى يطلُّ أحمد ملايشة ابن عم الشهيد على الحدث قائلًا: "سمعنا صوت إطلاق نار كثيف استمرّ عدة دقائق، كانت قوات إسرائيلية خاصة تتمركز في بيت مهجور، الشبان الثلاثة حسب ما علمنا وقعوا في كمين لتلك القوات وغدره، ورغم ذلك اشتبكوا معه وارتقوا شهداء".

قطعت أصوات غاضبة ترددها حناجر المشيعين صوت ملايشة في لحظات توقف فيها عن الكلام، ثم أكمل لصحيفة "فلسطين" مشيدًا بتضحية ابن عمه وصديقَيه: "هم دائمًا في حالة اشتباك مع الاحتلال حتى آخر لحظة في حياتهم"، واصفًا ما جرى بـ"جريمة اغتيال بشعة".

لم تخلُ الفعاليات ضد الاستيطان من مشاركة الشهيد ملايشة، ومنذ طفولته كان يشارك برجم قوات الاحتلال في الحجارة وعندما كبر خطت رصاصاته رسالة حب وانتماء لفلسطين ذُيّل توقيعها بدمائه، أما عن شخصيته الاجتماعية، يقول عنه: "هو شخصية اجتماعية علاقته طيبة مع الجميع، كان شجاعًا في حياته وجريئًا، همه الوحيد أن يختم الله حياته بالشهادة".

أحبَّ الشهيد ملايشة زوجته وطفليه وتعلّق بهم، ولكنّه نظر لزاوية أخرى أن "الوطن أغلى من كل شيء فقدم لفلسطين نفسه".

تحدت الرصاص

لحظة وقوع الحدث وبدء الحديث عنه عبر مجموعات تطبيق "تليجرام"، كانت والدة الشهيد أحمد فشافشة (22 عامًا) أول الواصلين لموقع الحدث، عندما شعرت أن ابنها بين الثلاثة قاطعة مسافة كيلو متر سيرًا على الأقدام، فمنعها جنود الاحتلال من التقدم، لتنتظر بقلق وخوف انسحابهم، وعانقت ابنها المضرّج بدمائه وذرفت دموع الحسرة حتى امتلأت ملابسها بدماء نجلها.

عايش محمد بداد المشهد الذي انتشر عبر منصات مواقع التواصل الاجتماعي، عن سر هذا الحب يقول لصحيفة "فلسطين": "تربطنا بهم صلة قرابة، توفي والد أحمد قبل سنوات بعد صراع طويل مع المرض، وكانت والدته تعمل بالزراعة لتعيلهم، تحب أولادهم بطريقة كبيرة وتخشى عليهم من الهواء".

ورغم كل هذا الحب إلا أنها "لم تمنع نجلها من المضي في طريق اختار فيه أن يدافع عن وطنه".

يسكن بداد بجوار منزل سفيان فاخوري، الذي امتاز بعلاقة طيبة مع جيرانه، عُرف عنه أنه صاحب نخوة "تجده يشارك في جميع المناسبات الوطنية، من أوائل الناس الذين يستقبلون الأسرى، يعشق الوحدة وينبذ التفرقة، وكان يقول دائمًا "فلسطين أغلى من الكل".

أفرج الاحتلال عن فاخوري في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بعد اعتقال دام ثلاثة أشهر، ومعه المحرر عز الدين حمامرة الذي استشهد في منتصف يناير/ كانون ثاني الماضي، ليلحق فاخوري برفيق السجن والمطاردة، وتحلق روحه إليه.

اتصلت مخابرات الاحتلال بالشهيد فاخوري لتسليم نفسه عند حاجز سالم العسكري شمال الضفة، وهدّده الضابط "بالاغتيال" إذا رفض، لكنه لم يكترث لتلك التهديدات.

يصف بداد شخصية فاخوري بأنه "شخص هادئ لا يمكن أن يخطر ببال أحد أنه مقاتل أو يحمل سلاحًا، والشهداء الثلاثة امتازوا بقربهم من جيل الشباب الصغير بالضفة وحضورهم القوي، كان قلبهم مفتوحًا عليهم يغرسون فيهم حب المقاومة".

المصدر / فلسطين أون لاين