إنها قصة أصحاب الأخدود الخالدة في القرآن الكريم، تتكرر اليوم ذاتها في ميانمار بكل صورها المؤلمة وأحداثها المؤسفة ومشاهدها المروعة، وكأن الأمس الأليم ينهض اليوم وهو حزين، إذ تتكرر محنة المؤمنين فيه من جديدٍ، بقسوتها وضراوتها وشدتها ومرارتها، حيث يغيب الإنسان بحسه وعقله ومشاعره وأحاسيسه، ويحل مكانه في استعداء الضعيف وقهر المسكين، وحوشٌ ضاريةٌ وكائناتٌ غريبةٌ لا تشبع من الدم، ولا يضطرب قلبها لمشاهد القتل والذبح والغرق والسحل، إنها حربٌ جديدةٌ على الدين والهوية، يُسعَّرُ أوارُها وتُذكى نارُها بحقد الكفار ولؤم المشركين، وعناد المستكبرين وتآمر الحاقدين، وضغينة البوذيين وخبث الجيران المتآمرين، فهي حربٌ قانونها القتل أو الهجرة والرحيل، والتخلي عن الأرض والوطن والذكريات والممتلكات، حيث لا مكان لمسلمٍ بينهم، ولا وجود لأهل القرآن معهم، ولا متسع لعمار المساجد فيهم.
العالم كله بعواصمه الكبرى وحواضره الحرة وقيادته المتحضرة، ومؤسسات الإنسانية والحقوقية، يقف أمام هول محنة المسلمين في ميانمار متفرجًا ساكتًا، لا يعترض ولا يستنكر، ولا يشجب ولا يرفض، ولا يحاول الصد أو الرد أو المنع، ولا يهدد بتحركٍ جماعي أو عقابٍ أممي، رغم هول ما يرى، وصدمة ما تنقله وسائل الإعلام، وفظاعة ما يرويه الناجون من اللاجئين منهم إلى بنغلاديش أو إندونيسيا، بل يكتفي المراقبون منهم برصد الجريمة وتوثيقها، وتعداد ضحاياها، وتحديد زمانها ومكانها، ولكنهم لا يعملون على منعها، ولا يسعون لحماية ضحاياها، رغم أنهم يبادون ويستأصلون، ويذبحون ويحرقون، ويقتلون ويسحلون.
لا يمكن السكوت عما يجري في ميانمار، كما لا يمكن الصمت إزاء الصور التي تتناقلها وسائل الإعلام وشبكات التواصل الإعلامي المختلفة، فلا الصمت جائزٌ ولا العجز مبررٌ، إذ أن الصور فاضحة، والجرائم صادمة، والمسؤولية الحكومية واضحة، وتورط الجيش مكشوف، وموافقة الحكومة معلومة، ومساهمة السلطات المحلية معلنة، ورجال دينهم يشاركون في الجريمة ويباركونها، وعامة المواطنين يساهمون فيها بالقدر الذي يستطيعون، وبالحقد الذي يملكون، وعجز المجتمع الدولي بائنٌ ومخزي، وصوته ضعيفٌ وفعله غير مجدي، إذ يبدو قطعًا أن ما يجري لا يعنيه ولا يهمه، رغم دعوات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي ندد بالمجازر، ودعا حكومة بورما إلى الاعتراف بالروهينغا كأقليةٍ مسلمةٍ، ومنحهم هوية بلادهم وجنسيتها، ووقف جرائم الإبادة العنصرية التي تنفذ بحقهم.
ليس في التاريخ الحديث جريمة تطهيرٍ عرقي وديني كما يحدث اليوم في ميانمار، ولا تشبهها تلك الحادثة التي خلدتها سورة البروج، التي انتصر فيها المؤمنون وهلك الملك والمشركون، فقد شقت فيها الخدودُ بعلم الدولة، وأضرمت فيها النار بمسؤولية الحكومة، وحرقت البيوت أمام وسائل الإعلام، وقتل المسلمون أمام أنظار الكون كله، وحرق الأطفال والتلاميذ المسلمون في مدارسهم، وشرد أهلهم من مناطقهم، وأخليت المدن والتجمعات منهم، وأغرقوا في البحار والأنهار أثناء هروبهم ومحاولات نجاتهم، فيما بدا أنها إرادةٌ حاقدة، عمياء متعصبة، سوداء مقيتة، وممارساتٌ وحشيةٌ عنيدةٌ، وسياسةٌ عنصريةٌ بغيضة، لها من يعينها، ومعها من يساندها ويتآمر معها، إذ لا يقوى البورميون على ارتكاب هذه الجرائم الفظيعة لولا الصمت الدولي المريب، والموافقة الأممية المشبوهة، والتآمر الإقليمي وتحريض الجوار وتأليب قادة وحكومات دول المنطقة.
السلطة الحاكمة في ميانمار تتحمل المسؤولية الكاملة إزاء ما يتعرض له المسلمون في بلادهم، إذ أن الذي يحرق البيوت والمتاجر، ويطرد السكان ويقتل المواطنين، أو يجبرهم على التخلي عن دينهم، والتحول إلى البوذية وهي دين الدولة الرسمي، إنما هم جنودٌ نظاميون، وعناصر شرطة بلباسهم الرسمي وأسلحتهم النظامية، والذي يجبرهم على العمل بالسخرة في الثكنات العسكرية، وفي شق الطرق وبناء الجسور وحفر الأنفاق، إنما هو جيش الدولة والسلطة الحاكمة، حيث يرتكبون هذه الجرائم المنظمة وفق تعليماتٍ واضحة، وتوجيهاتٍ مباشرة من قيادتهم العليا، وبمباركةٍ علنيةٍ من رجال الدين البوذيين، الذين يرون في الإسلام في بلادهم عدوًا يجب استئصاله، وفي الهوية المسلمة خطرًا ينبغي شطبها أو تغييرها.
ألا ترى الصين ما يجري بالقرب منها، وعلى حدودها وفي مناطق نفوذها، وهي التي ترعى حكومة ميانمار وتساندها، وتشترك معها في تجارةٍ واستثمار، وترتبط معها بمصالح ومنافع، ألا ترى وهي واحدة من القوى العظمى المنوط بها حفظ السلم والأمن الدوليين، وصيانة حقوق الإنسان وضمان عدم الاعتداء على معتقداته، أن ما يجري من حليفتها في ميانمار إنما هو جريمة كبيرة، واعتداءٌ غاشمٌ على الإنسان، ألا تملك القدرة على وقف الظلم ومنع القتل، والانتصار للقيم الإنسانية التي تدعو لها.
إنها الصين وروسيا واليابان ومعهم الهند ودول العالم التي تدعي الحضارة والمدنية والتطور، إنهم جميعًا شركاء في الجريمة، ومسؤولون أمام العالم عما يجري في هذه البقعة الصغيرة المجاورة لهم، ضد مسلمين ضعفاء، ومواطنين عزل من كل سلاح، فعليهم أن يتحركوا بسرعة لوقف الجريمة، وإعادة الحقوق لمسلمي ميانمار، وضمان الأمن لهم في المستقبل، وإلا فإنهم شركاء متعاونون، وجيرانٌ متآمرون، وأعداء مشتركون.
يجب على المسلمين أن يرفعوا الصوت عاليًا ضد بكين تحديدًا، التي تدعم الحكومة البورمية، وتقدم لها السلاح، وتدعم سياستها العنصرية أمام المحافل الدولية، فالمسلمون في بورما يقتلون بإرادةٍ صينية، ويعدمون بمظلةٍ بوذيةٍ تنمو وتترعرع عندهم، والعلاقات العربية والإسلامية مع الصين كبيرة جدًا، فينبغي استغلالها للضغط على حكومتهم، لترفع الغطاء عن الحكومة في ميانمار، التي تمارس القتل وتسكت عنه.
المسلمون مطالبون قبل غيرهم، بالأصالة عن أنفسهم، بالوقوف إلى جانب إخوانهم المسلمين ونصرتهم، وتأمين حياتهم، والعمل على رفع الظلم عنهم، وإعادة الحقوق إليهم، وتحريك المجتمع الدولي كله لنصرتهم وإغاثتهم، إذ أنهم لا حول لهم ولا قوة، ولا عندهم بأسٌ ولا منعة، فقد حرمهم البوذيون من كل حقوقهم، وجردوهم من كل امتيازات البشر وحقوق الإنسان، وجعلوا منهم هدفًا للقتل، وسبيلًا للتطهر، ما جعل نصرتهم واجبة، والوقوف إلى جانبهم فرضٌ لا يسقط إلا بسقوط الظلم عنهم، وإعادة الحقوق إليهم، وإلا فإن الأمة الإسلامية كلها مدانةٌ مذنبةٌ مقصرة.