فلسطين أون لاين

ضوء سيارة أخرجه من أنقاض زلزال سوريا

تقرير "حسن البيطار".. لاجئ يواجه حياة التشرد بـ"خيمة" لا تشرق عليها "شمس"

...
حلب - غزة/ يحيى اليعقوبي:

لم يكن الصباح يعنيها منذ أن غادرت مخيم اليرموك إلى ريف حلب بالشمال السوري، هربًا من صوت الصواريخ والقذائف التي لم تتوقف في السقوط عليهم، تبحث عن النجاة وحياة أكثر أمنًا لأطفالها.

كانت تتأمل السماء فجر السادس من فبراير/ شباط الماضي ومن نافذة التأمل تحاول انتشال ذكرياتها في المخيم من بين ركام قلقٍ وخوف يجتاح قلبها لا ترى الضوء في نهاية أفكار معتمة عن مستقبل أطفالها، وبين ذراعيها ترضع صغيرتها سلام (عام وشهران)، قبل أن تهتز بها جدران المنزل وتتراقص حجارته بشكلٍ عنيف لم ترهَ في المخيم عندما كانت تهرب من القذائف نحو الغرف الآمنة.

نزحت شمس مداح هي وزوجها حسن البيطار (38 عامًا) وهو لاجئ فلسطيني يعيش في سوريا، بعد حصار وقصف طال منزلهما في المخيم، عاشا على "الحلوة والمرة"، قاسمته رغيف الخبز، وأحيانًا تنافسا على الإيثار، ليربط كل واحد منهما على بطن الآخر مع قلة الطعام أثناء الحصار؛ قبل أربع سنوات ونصف، عندما ودع زوجها ستة من أشقائه استشهدوا بالحرب، فكان على موعدٍ مع وداع وتشييع جديد مختلف.

"كنت نائمًا، اهتزت بنا الغرفة بالمرة الأولى، فركضنا على جدار قوي ومسلح قرب درج المنزل، احتضنت طفلي: قصي (أربع سنوات ونصف) وسارة التي تصغره بعام، وزوجتي احتضنت طفلتي سلام، وفجأة انهارت بنا العمارة وتهاوت بنا للأسفل" تنصت صحيفة "فلسطين" لصوت تجتمعُ فيه أحزانٌ تراكمت طبقاته في قلبه فوق أحزان أخرى لم تلتئم بعد.

تشبث بالحياة

كمن يجلس مع الموت، كان الردم يحاصره من كل مكان بعينين مغمضتين يرتجف قلبه، يسمع صوت استغاثة أطفاله أسفل منه بقليل: "بابا طلعنا" وهو لا يستطيع فعل شيءٍ، يتهادى إليه صوت سيدة مسنة في طبقات الردم أسفل منه، تستنجد به قبل أن يطبق السقف عليها أكثر: "طلعني يا جاري"، لم يتركها تواجه مصيرها بنفسها: "ححاول أطلع أولادي، واطلعك، أنا قلقان متلك يا أختي".

يعلق بين فراغ سقفين أطبقا عليه وأبقيا على مساحة فراغ قليلة منحته النجاة، تغطيه الحجارة والردم وتظلم عليه الدنيا، يلتقط الهواء بعناء، يخترقُ قلبه صوت أطفاله: "بابا طلعنا"، يتشبث بحبال الحياة حتى الرمق الأخير.

لم تستطع يداه التي تحسست كثيرا في بقعة الظلام الوصول لزوجته التي ابعدها الردم عنه، بعدما لم ترد على نداءاته عليها: "شمس سمعاني" في كل مرة كان الصوت يرتد إليه خاويًا، لا يعرف إن كانت نبضات قلبها الذي ينبض قلبه باسمها قد توقفت أم لا.

تمر الدقائق وكأنها جبال لا تتحرك، بعد نصف ساعة على هذا النحو، اخترق أذنيه صوت سيارة كشف ضوؤها فتحة صغيرة من الردم تطل على الخارج، وكأنها نافذة تطل من الموت على الحياة، تخنق الدموع صوته، لا تفارقه تلك اللحظة: "مكنني ضوء السيارة من رؤية أولادي، وبدأت بالزحف عبر الفتحة الصغيرة وتوسيعها بالحفر وإزالة الأسياخ الحديدية، فتمكنت من الخروج".

اقرأ أيضاً: ارتفاع عدد الضحايا الفلسطينيين في زلزال سوريا وتركيا لـ 91

من بين دموعٍ لم تتوقف عن مرافقة صوته يطل على الموقف: "لم يلتفت إلي أحد، الجميع كان منشغلاً ويركض على مصيبته، رأيتُ صديقًا ووجدت معه مشعل غاز طهي، فاستعملته وعدت من نفس الفتحة التي أحدثتها في الردم واستطاعت سحب طفلي قصي وأخرجته، ثم عدت وسحبت طفلتي سارة".

عاد مرة ثالثة ليسحب زوجته، فكان أمام الصدمة: "أزلتُ الركام الذي كان يفصلنا، تحسستُ النبض فوجدتها قد فارقت الحياة هي وطفلتي سلام، إثر ارتطام الحطام برأسهن".

شيع زوجته تحت الركام، وألقى نظراتِ وداع على جسدها المحاصر تحت الردم، يبكي وهو يمسك يديها، يعاتبها أن فارقته في طريق حياة رافقته فيه، بصوت يعتصر بكل أنواع القلق أنهى طفلاه مراسم التشييع لزوجته: "بابا وينها"، لا يعلمان ما حل بها.

خيمة وحياة جديدة

"توفيت كل عائلة زوجتي وكانوا يسكنون بالشقة المجاورة لنا وعددهم أربعة عشر فردًا، وزوجتي وطفلتي سلام، خرجت بطفلي قصي وسارة نعيش في خيمة، أحاول التأسيس لحياة جديدة" خيمة وأربع فرشات وبعض الأغطية، وكرة قدم يلهو بها طفله الصغير ليركل أحزان كبر عليها، يحمل في قلبه وجع فقد جديد، يعيش حياةَ تشرد جديدة سيواجهها وحده بلا دفء "شمس" التي لم تشرق على قلبه.

بصوت ممتلئ بالبكاء، ذابلٌ يختبئ فيه الحزن وراء قفصه الصدري كنجمة انطفأ وهجها، يرثي زوجته: "كانت صالحة مطيعة، لا أنسى عندما أصبت بالحرب وجلست على الفراش بالبيت خمسة أشهر، فلم تتركني، وظلت تسهر على رعايتي حتى استطعت المشي من جديد".

أخذ نفسًا عميقًا لا يصدق أنها رحلتْ، وأذن لشفتيه بمواصلة استرجاع مواقف من ذاكرة تعج بالمآسي، يستحضرُ مشهدًا من الحياة بالمخيم: "كانوا يوزعون علينا وجبة واحدة يومية أثناء حصار المخيم، مكونة من 400 غرام أرز، ومعه لبن، كانت حامل بطفلي قصي، وكنت أقول لها: "إنني أكلتْ" عندما ترفض الأكل بدوني لأن الطعام لم يكن يكفي لكلينا".

لا يزال ينتشل ملامح زوجته من زحام الذكريات: "كان أملنا بالعودة للمخيم، ثم بالعودة لفلسطين، تحملت كل شيء معي، طفلتي الرضيعة سلام كانت تركض عندما أعود من العمل لمعانقتي، آخر كلام سمعته من زوجتي دعائها قبل أن تهوي بنا العمارة: "يارب تلطف فينا".

يعود من ماضيه المؤلم لحاضر لا يقل قساوة: "وضعنا مأساوي، نحن في خيمة في الطريق، خسرت زوجتي وعائلتها وطفلتي، خرجت ومعي طفلين أحاول التأسيس حياة من جديد، في خيمة وأربع فرشات وبعض الأغطية، حتى عندما أحاول الخروج للبحث عن عمل يمنعني طفلاي فلا يزالان خائفين، ويبحثان عن والدتهم يعتقدان أن "الجنة" مكان يمكنها أن تعود إليه وهم ينتظران عودتها".