تشهد الأحداث التاريخية، في بعض الأحيان، تطوراتٍ عاصفةً تتكثف فيها الأحداث والتغيرات في أيام بما يعادل أعواما من أوقات التطور العادي. ولعل هذا ما تعيشه في هذه الأيام المنظومة الصهيونية التي أسّست (إسرائيل) وتحكمها منذ ما يزيد على سبعة عقود. ويمكن تلخيص هذه التطورات في خمسة محاور رئيسية:
أولا، التحوّل العميق من الصهيونية العنصرية إلى الفاشية المكشوفة والمفضوحة التي يعرّيها بشكل خاص سلوك أحزاب الأصولية الدينية اليهودية المتطرّفة، وتصريحاتها وممارساتها، بقيادة الوزيرين في حكومة (إسرائيل)، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، وكلاهما مستوطنان يرتكبان جرائم حرب بنشاطهم الاستعماري. وكلام سموتريتش، ضرورة إزالة بلدة حوارة الفلسطينية من الوجود، مجرّد رأس جبل الجليد الفاشي الذي يمثّله، والذي لا يخفي طموحه إلى تكرار نكبة الشعب الفلسطيني وممارسة التطهير العرقي ضد ملايين الفلسطينيين من جديد للوصول إلى هدفه المعلن في برنامج الحكومة الإسرائيلية، أن كل فلسطين التاريخية التي يسمّونها "أرض (إسرائيل)" حكر لليهود، ولليهود فقط. ولا يمثّل صعود الفاشية إلى الحكم تغيّرا مناقضا لمسار الحركة الصهيونية، بل يمثّل، في الواقع، تطوّرا طبيعيا لذلك المسار الذي أتقن سابقا إخفاء جرائمه بتزوير الرواية، وإخفاء الحقائق، وشيطنة النضال الوطني الفلسطيني.
ذكّرت الهجمة البربرية للمستعمرين المستوطنين على حوّارة بهجمات العصابات الصهيونية وما ارتكبته من مجازر ضد الشعب الفلسطيني عام 1948، ولكن على مرأى العالم ومسمعه هذه المرّة وعلى الهواء مباشرة. ووصل الأمر إلى حد وصف رئيس "الشاباك" السابق، يوفال ديسكين، تلك الهجمة البربرية بالإرهاب اليهودي، في حين تجرّأ نشطاء سلام إسرائيليون على وصفها بالبوغروم (التدمير) اليهودي ضد الفلسطينيين.
وتجسّد التحوّل نحو الفاشية في سلسلة من المجازر الوحشية، بما فيها ثلاث في شهر واحد، ارتكبت في جنين وأريحا ونابلس، وفي تمرير قانون سحب الجنسية من الفلسطينيين، المتهمين بالمقاومة، في القدس والداخل، بتأييد 94 عضوا من الكنيست، بما في ذلك أنصار الائتلاف الحاكم والمعارضة الصهيونية، بالإضافة إلى تمرير قانون فرض عقوبة الإعدام على المناضلين الفلسطينيين بالقراءة الأولى.
ثانيا، تعمّق الانقسام الداخلي الإسرائيلي بدرجة غير مسبوقة، وصل إلى حدّ المواجهات في الشوارع، وتصاعد التحذيرات من انزلاق إسرائيل نحو حربٍ أهلية، وهو انقسامٌ بين الاتجاهات الصهيونية الليبرالية وتلك المتعصبة دينيا، اندمج مع انقسامٍ عميق سابق بين الأشكناز الغربيين والسفارديم الشرقيين.
ثالثا، أصبح المستعمرون الصهاينة في الضفة الغربية، والذين وصل عددهم إلى 750 ألفا، قوة سياسية مقرّرة، بامتلاكهم 15 مقعدا في الكنيست الإسرائيلي، وبكونهم المحرّك الأكبر للتحوّل نحو الفاشية العنصرية وصعود الأصولية الدينية اليهودية، وهم أكبر العناصر المغذّية لحالة الانقسام المتصاعدة. وهكذا تدفع الليبرالية الصهيونية في هذه الأيام فاتورة جريمتها الكبرى، بإصرارها على استمرار الاحتلال وبناء معظم المستعمرات الاستيطانية في الضفة الغربية، وتجني ثمار ما صنعته يداها، بتكريس نظام الأبارتهايد العنصري ضد الفلسطينيين.
رابعا، رغم اتحاد الليبرالية الصهيونية والأصولية الدينية مع تيار التطرّف القومي في العداء للشعب الفلسطيني ورفض حقوقه الوطنية، واستخدام ذلك العداء لمحاولة توحيد الإسرائيليين تحت شعار حماية الأمن الإسرائيلي، ورغم تجاهل منظّمي مظاهرات المعارضة لحكومة نتنياهو مسألة الاحتلال القائم، إلا أن الموضوع الفلسطيني فرض نفسه بعد مجزرة نابلس والهجمة على حوارة وتصريحات سموتريتش.
والواقع أن تأثير العامل الفلسطيني على التطوّرات في إسرائيل كان أكبر من ذلك بكثير، فاحتلال الضفة الغربية، بما فيها القدس وقطاع غزة، قبل ما يقارب 56 عاما، كان العامل الحاسم الأكبر في التحوّلات داخل المجتمع الإسرائيلي، بما في ذلك استغلال العمالة الفلسطينية الرخيصة لمراكمة رأس المال الذي حوّل إسرائيل إلى الرأسمالية الليبرالية، وفتح الطريق لوصول اليمين والقومية المتطرّفة الليكودية إلى الحكم. وكذلك حركة الاستعمار الاستيطاني التي أثمرت الأصولية الدينية المتطرّفة، كما شُرح سابقا، بالإضافة إلى تكريس إسرائيل بوصفها منظومة الأبارتهايد الأسوأ والأشرس في تاريخ البشرية. وهذه كلها عوامل تساهم في توسيع (وتعميق) التفتت الداخلي الإسرائيلي الذي يتشنّج كل يوم بضعف مناعته وعدم قدرته على احتمال الخسائر البشرية الاقتصادية التي تسبّبها المقاومة الفلسطينية، والخسائر المعنوية والأخلاقية التي تتصاعد بتأثير صعود الفاشية وترسيخ منظومة الأبارتهايد.
خامسا، موت ما سمّي "حلّ الدولتين" بفعل الاستيطان الاستعماري والتطرّف القومي والديني الإسرائيلي، والتقاعس العربي، والتخاذل الدولي، واتساع القناعة الفلسطينية بأن الحل الوحيد هو إنهاء الاحتلال بالترافق مع إسقاط نظام الأبرتهايد في كل فلسطين التاريخية، وإقامة الدولة الواحدة الديمقراطية، بما يؤمّن الحقوق القومية والمدنية الفلسطينية لمن أصبح عددهم أكبر من عدد اليهود الإسرائيليين في فلسطين. وفي ظل كل هذه التطورات، بدا اجتماع العقبة أشبه بشهقة الموت لما سميت "عملية السلام" ونهج المفاوضات الذي كان ينازع في غيبوبة لا مخرج منها طوال أكثر من 22 عاما. وكما كان فشله ذريعا، بدت السلطة الفلسطينية ضعيفةً وعاجزةً عن إدراك كل ما عاشته فلسطين من تطورات منذ الانتفاضة الثانية.
وما فشلت القيادة الرسمية الفلسطينية وفصائلها في تحقيقه من تطويرٍ لمهام الحركة الوطنية الفلسطينية واستراتيجيتها يتحقق اليوم تدريجيا على الأرض بفعل جيل صاعد من الشباب الفلسطينيين والمقاومة التي يصنع فيها وحدة نضالية كفاحية، متجاوزا انقسام القيادات ومراوحة بعضها في غياهب الماضي.
خلاصة الأمر أن جبروت (إسرائيل) التي تبدو قويةً وعتيّةً في أذهان بعض حكّام المنطقة، ينكسر أمام صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته، وبتأثير التفتّت الداخلي وتعفّن منظومة الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث. وتتأكّد أكثر من أي وقت مدى صحة استراتيجية الجمع بين المقاومة على الأرض والضغط لفرض العقوبات والمقاطعة على منظومة الاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلية.