فلسطين أون لاين

ما بعـد العقبــة

 

حاول مؤتمر العقبة الذي عقد في الأردن في 26 شباط/ فبراير 2023، بمشاركة الأردن ومصر وأمريكا والسلطة الفلسطينية في رام الله والكيان الصهيوني، أن يُذلِّل العقبات للخروج من عدة مآزق: مأزق الكيان الصهيوني في مواجهة المقاومة وتصاعدها في الضفة الغربية، وتجاوز مخاوف التصعيد واحتمالات الحرب في شهر رمضان القادم؛ ومأزق السلطة التي تدهورت قيمتها ومكانتها فلسطينياً، كما تراجع أداؤها الوظيفي في التقييم الصهيوني والأمريكي؛ ومأزق مسار التطبيع والتسوية الذي يتعطّل عادة ويفقد مبرر وجوده، مع تصاعد القمع الصهيوني ومع تصاعد العمل المقاوم.

البيان الذي رشَح عن المؤتمر، والذي نشرته "قناة المملكة" الأردنية، يؤكد التزام السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي باتفاقات التسوية، وخفض "التصعيد" على الأرض، والحفاظ على الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة في القدس. ويشير إلى التزامٍ إسرائيلي بوقف مناقشة إقامة أي وحدات استيطانية جديدة في الضفة الغربية لمدة أربعة أشهر، وبوقف إقرار أي بؤر استيطانية لمدة ستة أشهر. كما اتُفق على متابعة تنفيذ القرارات والتوجهات في اجتماعٍ يُعقد في شرم الشيخ بمصر في آذار/ مارس 2023.

تُرى، ما هي الآفاق والتوقعات ما بعد مؤتمر العقبة؟!!

أولاً: متابعة الدور الوظيفي الأمني للسلطة:

من الواضح أن قيادة السلطة في رام الله غير جادة في تغيير وظيفتها، التي حصرها الاحتلال بها، في تسيير الحياة اليومية للفلسطينيين وقمع المقاومة ومطاردتها؛ أي تكريس استعمار "الخمس نجوم" الذي يتمتع به الاحتلال. لقد جاء المؤتمر ليوفر للسلطة بعض الدعم والإسناد المشروط حتى تستمر في وظيفتها، بعد أن تآكلت هذه السلطة، وفقدت مبررات وجودها في أعين معظم أبناء الشعب الفلسطيني.

وإذا صدقت التسريبات عما عُرف بـ"خطة فنزل" لقمع المقاومة في الضفة الغربية، والتي ذُكر أنها نوقشت في اجتماع العقبة؛ فهذا يعني أن السلطة في رام الله "والغة" حتى آذانها وبكامل إرادتها في التنسيق الأمني، ومستعدة للوصول إلى أبعد مدى في قمع المقاومة. والجنرال مايكل فنزل (Michael Finzel) هو المنسق الأمريكي الأمني للفلسطينيين والإسرائيليين.

وتشير الإجراءات المقترحة إلى تعزيز التنسيق الأمني من خلال المشاركة الأمريكية، وإلى تدريب قوات فلسطينية من خمسة آلاف عنصر في الأردن، بإشراف أمريكي خاص، حيث سيعملون بعد العودة على قمع المقاومة خصوصاً في شمال الضفة بإشراف أمريكي، وإلى تقليص الحضور العسكري الأمني الإسرائيلي بالتزامن مع حلول عناصر أمن سلطة رام الله مكانه، في ضوء الاطمئنان إلى قيامهم بالدور المطلوب؛ وإلى أن تُغيّر قيادة السلطة من نهجها "المتساهل" مع عناصر المقاومة، نحو مزيد من الحسم والتَّشدُّد.

ولذلك، ينبغي لقوى المقاومة وتيارات الشعب الفلسطيني ورموزه ألا يراهنوا على تغيير سلوك السلطة السياسي والأمني المستقبلي وألا يتوقعوا ذلك، لأن هذا السلوك هو شرط وجودها لدى الاحتلال والأمريكان.

ثانياً: المقاومة مستمرة:

يميل خط المقاومة منذ نحو عامين إلى الاستمرار والصعود، وعناصر التصعيد ما زالت قوية وفاعلة، سواء في اتساع دائرة المؤمنين بجدوى المقاومة المسلحة، أم في اتساع دائرة الرافضين لمسار التسوية واتفاقات أوسلو، أم في اتساع دائرة المحبطين من سلطة رام الله وقياداتها ورموزها.

كما أن اتجاه الكيان الصهيوني نحو مزيد من التطرف الديني والقومي وتوسيع العدوان التهويدي والاستيطاني ضدّ الأرض والإنسان، يؤجج جذوة المقاومة. كما أن المشاركة الفاعلة للشباب والمبادرات الفردية تعطي روحاً أقوى للعمل المقاوم، وتزيد من صعوبة التعامل الأمني لسلطتي الاحتلال ورام الله المسبق معها. ثم إن ما حدث من استمرار العمليات القوية المؤثرة بعد حملات القمع الصهيوني في القدس وجنين ونابلس وأريحا وحوارة، يُعطي مؤشراً بعدم انكسار الإرادة الفلسطينية في وجه الاحتلال.

لا شك أن تحدي استمرار المقاومة ليس سهلاً، وأن الشعب الفلسطيني يعاني ظروفاً قاسية جداً تحت الاحتلال، غير أنه من المرجح أن تستمر المقاومة وإن بسلوك موجي، ترتفع وتيرته أو تنخفض، ولكن لا تتوقف.

ثالثاً: تصعيد إسرائيلي مدروس:

في ظل الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفاً في تاريخ الكيان، سيسعى الاحتلال لرفع وتيرة الاستيطان والقمع والتهويد والاعتداء على المقدسات إلى أقصى مدى ممكن؛ ولكنه في الوقت نفسه سيسعى في هذه المرحلة قدر الإمكان لتجنب الحرب مع قطاع غزة، ولتجنُّب اندلاع انتفاضة في الضفة الغربية. ولعل هذا هو أحد الأسباب الجوهرية لانعقاد مؤتمر العقبة، لكبح وامتصاص الآثار المحتملة لإجراءاته الإجرامية المتطرفة على الأرض.

ولذلك، فإن استمرار العمل المقاوم الفعَّال، سيفشل هذا المخطط الإسرائيلي ويضطره لخفض سقف توقعاته من جديد؛ كما سيسهم في تأزيم الوضع الداخلي الإسرائيلي الذي ترى قطاعات متزايدة منه، أن سياسة الحكومة ستكون لها آثار عكسية ضارة على الاحتلال وعلى المجتمع الصهيوني نفسه.

رابعاً: متابعة أوهام التسوية ومسارات التطبيع:

يُمثِّل اجتماع العقبة "جرعة" مهمة لدفع مسارات التسوية والتطبيع؛ ذلك أن تصاعد القمع الصهيوني وتصاعد برامج الاستيطان والتهويد، وكذلك تصاعد العمل المقاوم، يُفقد هذه المسارات مبررات وجودها، ويُعرقل قدرة الأنظمة المُطبِّعة على تسويق علاقاتها مع الاحتلال الإسرائيلي، في الوقت الذي تتسع فيه دائرة التفاعل الشعبي العربي والإسلامي، وحتى الدولي، مع المقاومة. وهو يفقد في الوقت نفسه الولايات المتحدة والمنظومة الغربية قدرتها على تسويق "أوهام" التسوية وحلّ الدولتين، وما يُسمى "مزايا التطبيع والسلام".

ثمة حاجة ضرورية لدى الأطراف المشاركة في مؤتمر العقبة لإشعار الناس أن مسار التسوية ما زال موجوداً على الأرض، وأن يتم ملء "السوق" بهكذا ادعاءات؛ لأن المعنى الوحيد لحالة التعطّل والفراغ هو انهيار مسار التسوية، وبروز المقاومة بكافة أشكالها كخيار وحيد للشعب الفلسطيني وللأمة لإزالة الاحتلال.

ولذلك، ظهرت في البيان إشارات عن وقف مناقشة إقامة وحدات استيطانية لأربعة أشهر، ووقف إقرار أي بؤر استيطانية لستة أشهر، ليتم تسويق ذلك باعتباره إنجازاً فلسطينياً وتنازلاً إسرائيلياً، غير أن نفي نتنياهو لتجميد الاستيطان وكذلك نفي سموتريتش وبن غفير لذلك، أفسد حتى مجرد التسويق ولو لأيام لهكذا مكسب.

وعلى هذا، ستستمر محاولة هذه الأطراف في النّفخ في مسار التسوية والتطبيع، ومحاولة قطع الطريق على العمل المقاوم، واستفراد الصهاينة بمحاولة إغلاق الملف الفلسطيني.

وفي الختام، فإن مؤتمر العقبة سيفشل كما فشلت قبله الكثير من المؤتمرات في تطويع الشعب الفلسطيني، وفي تسويق الاحتلال، ومسار التسوية، وفي "النَّفخ" في سلطة رام الله؛ وستمضي حركة الأحداث، باتجاه استلام قوى المقاومة لزمام قيادة الشعب الفلسطيني.