فلسطين أون لاين

عندما رفع جندي إسرائيلي جهاز التنفس عن جريح يلفظ أنفاسه الأخيرة

تقرير في "عقبة جبر".. دمعة مسعف تهزمها تنهيدة حسرة

...
غزة/ يحيى اليعقوبي:

بلاغٌ عاجل وصل ضابط الإسعاف في الهلال الأحمر الفلسطيني جمعة قطراوي الساعة الواحدة ظهر الأربعاء الماضي، يفيد بإصابة مواطن بالرصاص الحي ومحاصرة بيت في مخيم "عقبة جبر" بأريحا، فتحرك بسيارة إسعاف برفقة طاقم طبي مكون من أربعة أفراد تجاه الموقع الذي لا يبعد سوى دقيقة واحدة عن مقرهم.

قبل وصول القطراوي ورفاقه للموقع المحاصر، تفاجأ بالشاب محمود حمدان (22 عامًا) مصابًا وملقى على الأرض يغرق بدمائه التي شكلت بقعة حمراء حوله وبجانبه دراجة نارية وحينها لم يتعرفوا على اسمه.

هنا، وبعيدًا عن مخيم "عقبة جبر" كان والده جمال حمدان لا يعلم بما يجري بالخارج، يرتدي ألبسة واقية له من لسعات النحل التي يتفقد خلاياها ولا يعلم أن هناك ما سيلسع قلبه، حتى انتهى من عمله بعد ساعاتٍ؛ وقبل أن يرتخي جسده على أحد المقاعد ويحتسي كأسًا من "الشاي" بعد يوم عمل شاق، قاطعه صوت سيدة قادم من بيت جيران مجاور للأرض: "بقولوا ابنك محمود متصاوب، صحيح!؟".

محاولة انتزاع

 "رأيته ينظر إلينا ثم دخل في حالة غيبوبة وكانت الدماء تملأ ملابسه، ترجلنا من الإسعاف واقتربنا منه للتدخل لإسعافه، فحاولت القوات الخاصة الإسرائيلية من وحدة اليمام والمستعربين منعنا، ثم اشترطوا علينا إسعافه بشرط عدم نقله للمشفى، فباشرنا في الإسعاف، أوقفنا النزيف الناتج عن إصابته برصاصة بالمنطقة اليسرى من الصدر أسفل القلب" يروي المسعف جمعة القطراوي لصحيفة "فلسطين" قصته مع محاولة إسعاف الجريح.

كانت علامات الشاب الحيوية من نبض وتنفس مضطربة، حاول القطراوي سحب الشاب من بين القوات الخاصة: "ثبتناه على حمالة الإسعاف، لنقله لسرير الإسعاف وكان هدفي الانسحاب من المكان، رغم أن المنطقة خطرة وفيها مواجهات بين شبان يلقون الحجارة وجيش الاحتلال، لكن الجيش منعنا"- يضيف القطراوي.

كان الوقت يداهم الفريق الطبي، بعد مرور عشر دقائق على هذا الوضع رغم أن المسافة من المكان لمستشفى أريحا لا تزيد على ثلاث دقائق، يحرك صوته بقية التفاصيل: "الوضع بدأ يسوء، توقف القلب فجأة، طلبت من زميلي إنعاش الرئتين".

ويتابع المسعف القطراوي: "قلت للضابط: يجب نقله للمشفى، فرفض بذريعة أنهم يريدون اعتقاله، فقلت له حسب البروتوكول: أحضر اسعافًا وخذه، فطلب إحضار هوية الشاب، فتشت في ملابسه فلم أجد، سألت بعض الجيران عن اسمه فحددوا الاسم، الذي فحصه الضابط على الحاسوب، فقال: "هذا بدنا إياه".

لأجل إسعاف الجريح تحمل القطراوي كل شيءٍ، يستحضر المشهد: "كان الجنود فوق رؤوسنا، يعاملوننا بقسوة، اختنقنا من رائحة الغاز، عشنا في ضغطٍ نفسي، شاب يموت أمام عينيك وأنت لا تستطيع فعل شيءٍ".

تكتم بقية التفاصيل على قلبه: "كنا نضع جهاز التنفس الاصطناعي (جهاز التهوية) على فمه، ونمده بمحاليل وريدية لتعويض ما فقده من سوائل؛ وبعد مرور 15 دقيقة إضافية جاءت التعزيزات من جيش الاحتلال ويفترض أن يكون برفقتهم الإسعاف الإسرائيلي الذي تحدث عنه الضابط".

جريمة تلو جريمة

فك الجنود جهاز التنفس المتصلة بأسطوانة أكسجين عن فم المصاب، وحملوه لمسافة 100 متر باتجاه الجيب العسكري ولم يكن هناك سيارة اسعاف إسرائيلية كما انتظرنا، كنا نركض ونحاول شبك جهاز التنفس والمحاليل في جسد الشاب حمدان، ولكن الجنود كانوا يلقون الجهاز بعيداً ثم نحاول مجدداً".

ألقى الجنود جسد الشاب الجريح داخل الجيب، يعشعش الحزن في قلب المسعف القطراوي الممتلئ بوجع مشهد ماثل في ذاكرته: "كذبوا علينا، وأحضروا جيبا عسكريًا وليس سيارة إسعاف، وألقوه داخل الجيب، وعندما عجزت أمامهم طلبت وضعه في حمالتنا وليس على أرضية مركبتهم فاستجابوا وانسحبوا به، وهذا بعد 25 دقيقة من محاولتنا اسعافه".

عن إمكانية اسعافه لو نقل للمستشفى أريحا، يجيب القطراوي بحسرة: "في هذه الحالة يحتاج لعناية مكثفة، صحيح أن علاماته الحيوية كانت مضطربة لكن كان يمكن إسعافه لأن المسافة كانت لا تتجاوز ثلاث دقائق".

يرد على ادعاءات جيش الاحتلال بأنه الجريح كان مقاومًا بالنفي، ويؤكد "الشاب كان يقود دراجة نارية وأصيب بمنطقة بعيدة عن المنطقة المحاصرة، الأمر الآخر أنه أصيب بالصدر أي أنه كان يسير بنفس الاتجاه ولو كانوا يطاردونه مثلًا لأصابت الرصاصة ظهره، هو كان يسير على دراجة نارية كعابر سبيل ليس له علاقة بشيء، فأعدموه بدم بارد".

مصير مجهول

بالعودة لوالده، دفعه استفسار السيدة لتفقد هاتفه فوجد سيلاً من المكالمات كانت تنهال عليه، ليعود للبيت ويجده يعج بالناس، ظل كبقية أفراد العائلة يترقب الخبر المؤكد عن مصير نجله، طوال عدة ساعات تضاربت الأنباء التي تلاعبت في قلبه حتى جاء خبر استشهاده مع حلول ساعات المساء.

"رأيته صباح الأربعاء، قبل مغادرته البيت للذهاب لعمله في منجرة يعمل بها منذ ست سنوات، وذهبت لتفقد خلايا النحل في أرضي، وهو بالعادة يعود ظهرًا للبيت القريب من المنجرة لتناول طعام الغداء ثم يرجع للعمل حتى ساعات المساء، في اليوم نفسه وأثناء عودته بواسطة دراجته النارية قابلته قوة من جيش الاحتلال وقتلته" بصوتٍ أنهكه الفقد يروي والده لصحيفة "فلسطين" ما جري.

ويضيف: "ابني كان مسالماً وما حدث جريمة إعدام بدم بارد لشاب كان يسير بالطريق ولا يزالون يحتجزون جثمانه".

المصدر / فلسطين أون لاين