تحاول السيدة الثلاثينية سلمى فارس أن تمارس حياتها ممارسة طبيعية بعيدًا عن ضغوطات الحياة التي قد تؤثر في حياتها البيتية وطريقة تعاملها مع أبنائها الأربعة، فتخفي ظروف عملها الخارجي في إحدى المؤسسات الخاصة والمشاكل شبه اليومية التي تواجهها، بخلع رداء العمل والاضطرابات التي يسببها لها على باب البيت.
ولكن ما لا تتوقعه هو حالة الضغط التي تعيشها بين أعباء العمل والبيت، وما ينتج عنه من قلق واضطرابات تنعكس على حياتها المهنية والخاصة حتى باتت لا تتمكن من السيطرة على انفعالاتها وردود فعلها على أتفه المشاكل.
تقول: "كان أبنائي يلاحظون عصبيتي وانفعالي، لدرجة أن ابنتي الصغيرة التي لا يتجاوز عمرها 5 أعوام تسألني: ماما ليش زعلانة؟، شعرت أن تلك مشاعر الضغط والعصبية وحالة القلق قد أسقطت على أبنائي في طريقة تعاملهم مع بعضهم".
وتشير فارس إلى أنها لم تدرك أن تلك الاضطرابات تنتقل إلى الأبناء عن غير دراية، فيقعون فريستها خاصة بعدما تحولت إلى أعراض جسدية دفعتها لزيارة الطبيب.
تأثير البيئة
في حين تقول أمل خضر، وهي أم لخمسة أبناء، أن الكثير من المواقف التي تمر بها تحفز لديها مشاعر القلق والخوف، فلا تقتصر على الظروف المعيشية الصعبة وزوجها العاطل عن العمل، حيث يعيش قطاع غزة أوضاعًا تختلف عن أي بقعة جغرافية في العالم نتيجة الحروب والمواجهات العسكرية وغيرها.
وتضيف: "لاحظت مراقبة ابنتي انفعالاتي حين حدوث القصف واشتداده، كنت أحاول ضبط نفسي ولكن في بعض الأحيان تخرج الأمور عن السيطرة وتنتقل تلك التصرفات والاضطرابات إلى أبنائي، فيتسلل لهم الخوف والقلق".
وتتذكر خضر أيام مرض والدتها وخوفها عليها وما صاحبها من أعراض كانت خير مثال لتلك الأمر، "فمع صوت رنين الهاتف المحمول كان قلبي يرتعد خوفًا من حدوث مكروه لها".
وتلفت إلى أن بناتها أكثر تأثرًا بها من أبنائها الذكور، "لكونهم يقلدون الأم في طريقة التحكم، وبالعموم فإن الرجال أقدر على ضبط مشاعرهم".
استجابات جينية
وأوضحت دراسة نشرها موقع "هيلث لاين" تحت عنوان: هل تنتقل اضطرابات القلق من الآباء إلى الأبناء؟، فإن اضطرابات القلق من المرجح أن تنتقل من الآباء إلى الأبناء، ومن الأمهات إلى البنات.
وتبدأ اضطرابات القلق في وقت مبكر من الحياة وإصابة أحد الوالدين بها هو عامل خطر ثابت، وفق الدراسة.
ويقول شين أوينز عالم نفس سلوكي ومعرفي في نيويورك، أحد الباحثين المشرفين على الدراسة: "الأطفال سيقلّدون والديهم منذ الصغر، وبالتالي فإن تطلعهم يؤدي إلى انتقال الصفات لهم -من الجنس ذاته- إليهم (…) ويمتد الأمر إلى السلوك، ولا سيما في أوقات الأزمات، فالصبي الذي يعاني القلق سيتصرف مثل والده، والفتاة التي تعاني القلق ستحاكي استجابة والدتها لظروف مماثلة".
ويحذر أوينز الآباء من الانتباه لتصرفاتهم في حال وجود الأطفال لأنهم سيُقلدونه مستقبلًا.
عوامل مؤثرة
ومن جهته، يرى استشاري الصحة النفسية المجتمعية د.محمد الكرد أن انتقال الأمراض النفسية مرتبط بعوامل مؤثرة تسبب الاضطراب النفسي، منها عوامل بيولوجية، وعوامل اجتماعية، وعوامل نفسية.
وفي شرح للأسباب البيولوجية التي تتعلق بالجينات فإن الآباء والأمهات الذين يعانون من اضطراب القلق ستزيد نسبة أبنائهم الذين يعانون القلق، وعامة ستكون الفتيات نسبتهم أكثر من الفتيان، في حين العوامل الاجتماعية التي ترجع لوجود ظروف خاصة ومشاكل عائلية التي تلعب دورًا رئيسًا في زيادة الأمور سوءًا، أما النفسية فتكون باكتساب الطفل القلق من سلوك والديه، وينتقل إليه وفق ما يعيشه مع أبيه وأمه، ويحتل جزءًا من تفكيره.
ويقول الكرد: "ينتقل الخوف وهو أحد أنواع القلق النفسي بالعدوى أو حتى الكراهية، فكم طفل يكره جاره لأن أبيه على خصام معه؟"، مضيفًا: "يمكننا القول دون خجل أن انتقال العادات والتقاليد عبر الأجيال يكون بنفس طريقة انتقال الاضطرابات النفسية مع إدراك حقيقة أن كل إنسان يولد لديه استعداد للمرض النفسي الذي يظهر على الإنسان نتيجة ضغوط الحياة أو نتيجة أسلوب التنشئة الوالدية أو حتى التعلم الخاطئ عند الكبار".
وبالعودة إلى اضطراب القلق، يلفت إلى أنه يظهر على شكل أعراض جسدية أو نفسية عندما تعجز النفس عن تحمل الضغط فتستأذن ذلك الجسد لكي يتحمل القلق الذي لا يطيقه الجسد.
ويلفت إلى ظهور إحساس مستمر بالخوف وعدم الراحة وترقب دائم لخطر ما سيحدث، ينتقل الشعور ليبدأ بأعراض جسدية رجفة، ودقات قلب سريعة، وضيق في التنفس وآلام في البطن، وصداع، ودوخة، لتبدأ رحلة طويلة من القلق يومًا بعد يوم وسنة عقب أخرى.
وينبه الكرد لضرورة انتباه الأهل لطريقة التعامل مع الطفل والبيئة التي يتربى فيها لأثرها في تكوين شخصيته واكتساب سلوكه وعاداته، فالوالدان لهما الدور في المساهمة في تنمية هذه الاضطرابات وزيارتها أو التقليل من حدتها.