"طبيب الفقراء" عبارة ستسمعها كثيرًا ما أن تسير بحي الزيتون جنوب مدينة غزة وتسأل عن الراحل الطبيب حسين عاشور (67 عامًا) الذي تقلَّد مناصب حكومية في وزارة الصحة وتنظيمية عليا في حركة حماس، لم تشغله عن الناس، فكرّس وقته وحياته لمداواة جراحهم، وتسكين آلامهم، وإنعاش قلوبهم بالأمل.
تمسَّك عاشور بانتمائه لوطنه، وقول الحق فدفع ثمنًا لذلك، كان مربيًا للأجيال وملهمًا لها، آمن بتضحيات الشعب وأنّ راية الحق والدعوة لا تسقط بل تُسلّم من جيل لجيل، حرص على ربط الجيل بقضيته ووطنه، وأن يكون العلم سلاحهم في هذا الارتباط.
عرف بوحدته وحبه لجميع الأطباء حينما كان مدير مجمع الشفاء الطبي، فكان جامعًا للأطباء من جميع أطياف الشعب الفلسطيني، وقف على رأس "الجيش الأبيض" يداوي جراح المواطنين، في ثلاث حروب عدوانية شنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة.
اقرأ أيضًا: حماس تنعى القيادي الدكتور حسين عاشور
زرع الانتماء
ولد الدكتور عاشور في 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 1956، ودرس في جامعة الإسكندرية بجمهورية مصر العربية وتخرّج منها عام 1983م طبيبًا عامًّا، وعمل في السعودية لأربعة أعوام، قبل أن يعود لجامعة الإسكندرية ويكمل الماجستير ويتخصص في الأنف والأذن والحنجرة.
ترأّس قسم الأنف والأذن والحنجرة بمجمع الشفاء الطبي وعمل مديرًا عامًّا لدائرة الرقابة بوزارة الصحة، كما ترأّس مجمع الشفاء الطبي وقاده بجدارة، ما بين (2007-2014)، وكان ذلك في أحلك الظروف حيث وافق ذلك ثلاث حروب عدوانية على قطاع غزة.
تنظيميًّا، يُعدُّ من المؤسسين الأوائل لجماعة الإخوان وحركة حماس في حي الزيتون، الذي خرّج العديد من أبطال المقاومة والجهاد، وتقلّد رئاسة قيادة حركة حماس ومجلس الشورى في منطقة جنوب غزة، وكان عضوًا في مجلس الشورى العام للحركة، وهو من الذين أعادوا تفعيل النشاط العسكري لكتائب القسام.
"ربانا منذ طفولتنا على الأخلاق وحفظ القرآن، يهتم بإيقاظنا لصلاة الفجر، نجلس معه في حلقة بعد الصلاة، زرع فينا حب الوطن وعزّز انتمائنا للإسلام والحركة الإسلامية، وغرس فينا الأخلاق الحميدة، شجّعنا على العلم"، يسكن جرح الفقد قلب نجله إبراهيم وهو يفتح ذاكرته لصحيفة "فلسطين" عن حياة والده.
لم يكن عاشور طبيبًا وقائدًا ناجحًا خارج البيت فقط، بل تابع أولاده في أدق تفاصيل حياتهم الدراسية وشجعهم ودرَّسهم، توج ذلك بحصول نجله محمد (36 عامًا) على درجة الدكتوراة في الهندسة المدنية بألمانيا، وإبراهيم (34 عامًا) على درجة الماجستير في الهندسة المدنية، وأحمد (32 عامًا) ومحمود على درجة البكالوريوس في تخصص الطب البشري، ومصطفى في تخصص المحاسبة، وابنته هبة في تخصص الهندسة المعمارية.
تعذيب شديد
لم يقفز نجله إبراهيم عن أصعب المحطات في حياة والده، حينما اعتقلته السلطة وتعرض لتعذيب شديد عام 1996، يطل على الحدث من نوافذ الذاكرة: "اعتقله جهاز الأمن الوقائي مدة 40 شهرًا، وفي أول ثلاثة أسابيع من مدة الاعتقال تعرّض لتعذيب شديد جدًّا، أدى إلى تضرر شبكية العين وحدوث نزيف".
لم تمحِ الأيام ملامح والده في أول زيارة للعائلة بعد سجنه بقيت ملتصقة في ذاكرة نجله: "طلب من أمي إحضار مصحف كبير، لأنه لم يكن يستطيع القراءة من المصحف الصغير، كان الضرب في التعذيب يتركز على منطقة الرأس وهذا كان أحد الأسباب حسب التشخيص التي أدت لنشوء ورم حميد بالدماغ أدى لحدوث نشأة غير طبيعية للخلايا كانت سببًا في وفاته".
"رأيته يومها وآثار الكدمات والدماء الجافة على وجهه وأنفه، اعتقل وهو ممتلئ الجسد وخرج هذيل الجسد ضعيفًا عليه آثار التعذيب، أدت سوء المعاملة والتغذية السيئة لإنقاص وزنه وإخراجه بملامح أخرى"، يستذكر.
في عدوان الاحتلال على غزة عام 2008، كان عاشور أمام تحدٍ كبير في القدرة على إدارة مستشفى الشفاء، في حرب تخللها آلاف المصابين ومئات الشهداء، عايش نجله تلك المحطة: "من أول دقيقة للحرب حتى آخر دقيقة، لم يغادر المستشفى، كان يفترش الأرض بمبنى الإدارة من أجل متابعة الجرحى والحالات الحرجة، ويتواجد بين الأقسام، ويتابع مع الجهات الدولية لتوفير الأدوية والمعدات الطبية".
بالطريقة نفسها أدار المجمع في عدوان 2012، وكانت مدة غيابه الأطول عن منزله عام 2014، فقد عاد إليه بعد انتهاء اليوم الواحد والخمسين من الحرب، بعد أن خاض هو والأطباء معركة أخرى في إسعاف مصابين وجرحى شوهتهم صواريخ الاحتلال.
اشتهر عاشور بحرصه على تفقد أحوال الناس والفقراء وكان يقرض الناس، ولم يتذكر نجله إبراهيم أنه طلب من أحد سد الدين: "كان يقصده الجميع لأغراض المعيشة أو الزواج، أذكر أنه عام 2018 جاءه شخص يحمل مبلغًا ماليًا يريد إعادته له، رفض أبي أخذه لأنه لم يذكر المبلغ، فيما أصر الرجل على إعادته، كان يقرض من باب التيسير على الناس وفتح باب خير ولا يسألهم أو يطلب إعادته، كانت عائلات ميسورة تدق أبواب البيت يتولى رعايتهم".
تقاعد عاشور بعد وصوله لسن العطاء عام 2016، لكنه لم يغلق أبواب عيادته، رافقه في هذه المحطة ابنه، "كانت كشفيته مخفضة ورمزية، ومجانية للفقراء وأبناء وزوجات الشهداء، كنت أذهب معه للعيادة الخاصة وأحصل على الكشفيات من الناس، وينتهي اليوم بأن العديد من الحالات لم يأخذ منهم ثمن الكشفية ويبقي لديه ثمن نحو ثلاث كشفيات فقط".
في جنازته استشعر نجله محبة الناس له: "كثيرون من العائلات المتعففة، شاركوا في تشييعه وذكروا لنا ما كان يفعله، وأطباء من جميع الفصائل".
نتيجة الورم في الرأس استمر تدهور حالته الصحية في آخر عام له، بعد أن وصل الورم لمناطق خطيرة في الرأس، وفي آخر شهر أدخل العناية المكثفة بعد أن فقد الوعي وظل في "غيبوبة" ليرحل في 23 فبراير/ شباط 2023، يقول نجله: "من أعراض المرض أنه لم يعد يستطيع الكلام، لكنه واجهه بالصبر والاحتساب وبكثير من الحمد لله".
زميل وجار
الطبيب محمد الرن عايش عاشور بمستشفى الشفاء، وجاوره في العيادة الخاصة في "دار الحكمة" مدة 15 عامًا، يقول لصحيفة "فلسطين": "هو إنسان بكل معنى الكلمة، كان دائمًا مع الناس وللناس، هذا الرجل قليل أن تجد أمثاله، رجل بمكانته ووضعه السياسي والمهني والإداري كان يمكن أن يكون إنسانًا آخرًا، لكنه ظل متواضعًا بسيطًا، وتربطه علاقة احترام ومودة مع جميع الأطباء".
ويقول الرن الذي عمل تحت إدارة عاشور بمجمع الشفاء إن الأخير نال إجماع واحترام جميع الأطباء من كافة الأطياف.
اقرأ أيضًا: "الإعلامي الحكومي" ينعى المدير الأسبق لمجمع الشفاء حسين عاشور
وحظي عاشور بمكانة رفيعة في قلوب الأطباء، فكان قريبًا منهم، يدافع عن حقوقهم، كان مديرًا ناجحًا، وفي العدوان تراه يتجول بين الأقسام، يشجع الأطباء ويحييهم على أدائهم، وفق زميله.
في العيادة كان الرن جارًا لعاشور منذ عام 2004، يقول: "جاورته بالعيادة لمدة طويلة حتى جاءه المرض، الطبيب عاشور أبى أن يكون مديرًا وأحب أن يظل مهنيًا، كانت تأتيه كل فئات المجتمع، كان عندهم ثقة عالية به كطبيب جيد ونصوح".
شُيع الطبيب في جنازةٍ عسكرية تقديرًا لدوره المهني والوطني في إسعاف جروح الوطن الكثيرة، وكان شخصية جامعة للكل يدافع عن حقوق الكادر الطبي، ووقف أمام عدم انهيار المنظومة الصحية في أثناء الحروب، وخفف ما يستطيع عن العائلات التي كانت تطرق بابه بعدما أحكم الحصار أبوابه وظلَّ باب الخير مفتوحًا لديه.