فلسطين أون لاين

آخر الأخبار

ماذا يستفيد العرب والعالم من صمود الفلسطينيين؟

بدأت القضية الفلسطينية في لحظة تاريخية خاصّة، هي لحظة عالمية، وكأنّها تكثفت تمامًا في القضية الفلسطينية، كان ذلك في الحرب العالمية الأولى، حينما اقتسم الاستعمار القديم تركة الدولة العثمانية في العراق والشام، ثمّ أخذ يهيّئ المنطقة العربية لتكون منطقة عازلة، من حول القادم الموعود الذي أعلنت عنه "بريطانيا العظمى" في حينه، في صيغة ما سُمّي بوعد بلفور، ثمّ يمكن القول كذلك، إنّ الحرب العالمية الثانية قد كانت لها نتائجها الخاصة على فلسطين وأهلها.

إن كانت تلك البداية، من حيث الأهمية، والتبلور الفعلي واضح المآل والمسار، فقد كانت الفكرة والمشروع أقدم من ذلك، وأبعد في سالف التاريخ، سواء من حيث كونها فكرة أوروبية، خامرت عقل نابليون بونابرت مثلًا، أم حركة صهيونية تملك أدوات الحركة والتأثير في القرن التاسع عشر، أم تجليات استيطانية في فلسطين في أواخر الدولة العثمانية، ولم يكن حينئذ للشعب الفلسطيني إلا أن يتعبّأ بهذا التاريخ، عبئًا مريرًا في نفسه، يتعاقب فيه جيلًا بعد جيل، كما يحمل صراعات الأرض وتناقضاتها، حملًا ثقيلًا ينوء به الكوكب، على ظهره، تتوارث أجياله حمله جيلًا بعد جيل.

ومن نافلة القول، إنّ الهزائم العربية قد أتمّت للمشروع الصهيوني ما أراد من الانعقاد، ولم تكن تلك الهزائم في بعض أحوالها إلا مؤامرة، يمكن منحها وصفًا مخفّفًا وهو تفاهمات بعض العرب مع "بريطانيا العظمى"، والحركة الصهيونية. وقول ذلك لم يعد من لوثات نظرية المؤامرة، أو أسرار التاريخ، وإنّما من وثائقه المكشوفة، ومعارفه المعلومة بالضرورة. وفي أحوال أخرى، كانت الهزائم العربية في فلسطين انعكاسات للرداءة العربية، كما كان من صور هذه الرداءة الخلافات العربية على فلسطين. وإذا كان لكلّ مسار لحظاته الكبرى من الانكشاف كما في هزيمتي 1948 و1967، فإنّ في محطّات المسار ما لا يقلّ خطورة عن تلك اللحظات، التي هي كشف واكتمال أكثر مما هي سبب، وهكذا يمكن ملاحظة السياسات العربية حول فلسطين قبل النكبة الأولى وبعدها، وقبل النكبة الثانية وبعدها.

فلسطين الانتدابية، التي ورثت الاسم التاريخي لفلسطين، أي تلك فلسطين التي تحدث عنها هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد، بوصفها المنطقة من فينيقيا إلى غزة، وسمّى أهلها سوريي فلسطين، وحمل أهلها اسم "أهل فلسطين" في الوعي العربيّ القديم، كما نجد ذلك في نصوص نبويّة شريفة، سابقة على الفتح الإسلاميّ لها، وسابقة على تبلور وعي الانتساب المكاني بفضل الفتح.. فلسطين هذه، ضمّت شعبًا بالضرورة صار أكثر تحسّسًا لذاته، وصياغة لوعي خاصّ به بمرور تلك المراحل؛ من اتخاذ بريطانيا لسياسات خاصّة في فلسطين، امتازت جوهريًّا عن سياساتها في المحيط العربي، ثمّ بحصر الاستيطان الصهيوني فيها، ثمّ بتلك الهزائم وإعلان تأسيس الكيان الصهيوني، ثمّ بثورات الفلسطينيين وانتفاضاتهم المتعاقبة.

في ذلك كلّه، لم تكن فلسطين قضيّة خاصّة بالفلسطينيين، لا من حيث كونها قضية العرب المركزية، كما هو الشأن في ذلك الشعار الذي رفعه العرب في أوقات خلت، ثمّ صار محلّ جدل اليوم، ولكن من حيث حقيقة الأشياء، ومنطق الوقائع التاريخية، فلم تكن القضية الفلسطينية إلا قضية عالمية، فكرة استعمارية أوروبية، ونتيجة للحرب العالمية الأولى، ودلالة على التوازنات الدولية، فقد ورثت الولايات المتحدة الاستعمار القديم، وصارت الأكثر رعاية للكيان الصهيوني. ثمّ فلسطين، في مستوى ثان أو طبقة ثانية من أبعادها، هي عربية، لأنّها، بما لا يمكن دفعه، نتيجة كذلك لحالة عربية، رداءة وخلافًا وهزيمة ومؤامرة.

في قلب ذلك كلّه، لم يكن للفلسطينيين دولة بالمفهوم السياسي الحديث، فقد انتقلوا من كونهم رعايا للدولة العثمانية، إلى كونهم واقعين تحت الانتداب البريطاني، والذي حال دون تكوينهم كيانية سياسية ينفصلون بها عن الانتداب ويصوغون بها هويتهم الوطنية، بخلاف سياساته في بقية مناطقه الانتدابية في شرق الأردن والعراق، وبخلاف سياسات الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان.

ومن الناحية الاجتماعية، وبوصفهم تكوينًا أصيلًا من الفضاء الشامي الواسع، يتداخلون مع محيطهم تداخلًا وثيقًا، لم يكن لهم أن يمتازوا بوعي خاصّ إلا بفعل تلك الوقائع السياسية التي فصلتهم عن ذلك الفضاء، واستهدفتهم بالمشروع الصهيوني، ولمّا كان الأمر كذلك، كان حجم الفاعل الفلسطيني في هذه القضيّة حجمًا صغيرًا من الناحية المادية، بالقياس إلى بقية الفاعلين، أي بوصف القضية الفلسطينية مشروعًا دوليًّا، وحالة عربيّة، ونتيجة لأهوال عظمى هي أوروبية بالدرجة الأولى، كالحرب العالمية الأولى.

لا يمكن، والحالة هذه، ملاحظة الفاعل الفلسطيني إلا بالنظر إلى بقيّة مستويات قضيته وطبقاتها، ومن ثمّ إدراك العبء الضخم الذي ينوء به الفلسطيني، وهو يتصدّى لا لقضيّة صغيرة خاصّة بشعب صغير، بل لقضيّة عالمية وعربيّة، تعاكسه فيها الظروف العالمية والعربية، ليكون على نحو ما في مواجهة العالم، وفي مواجهة حالة عربية كانت يومًا غاية في الرداءة، بما دفّعه ذلك الثمن الفادح، ثمّ صارت اليوم في بعض تجلّياتها جزءًا صريحًا معلنًا من المشروع الصهيوني، وفي الوقت نفسه الدفاع عن العرب، مع انطماس الوعي الكافي بالغرض الاستعماري من اصطناع (إسرائيل) في القلب العربي، وكذلك الدفاع عن العالم، للحمولة الأخلاقية الواضحة للقضية الفلسطينية، على النحو الذي يمتحن البشرية، طوال هذا التاريخ منذ أكثر من مئة عام.

الشعب الفلسطيني، طوال هذا التاريخ، كان شعبًا قليل العدد، وحتى تبلوُر وعيِه ضمن السياقات التاريخية بوصفه شعبًا واحدًا انتظم بفعل تلك الكوارث الهائلة التي لأَمَته واختصّته بفجائعها، وكان ضمن تلك السياقات، وتحت تلك الكوارث، منعدم الإمكانات تقريبًا، الأمر الذي يعني من جهة قراءة فعله ودوره بالنسبة لحجمه وإمكاناته من ناحية ومعاينة قضيته في أبعادها التي تفوق حجمه وإمكاناته ثمّ تقييم أخطائه أو أخطاء فاعليه، من ناحية ثانية، بما في ذلك بالغة الفحش والسوء، بالنسبة لتلك الأحجام والقياسات، وهو ما سيفضي إلى الانتباه للجهة الأخرى من ذلك كلّه، وهو إدراك العبء الواقع على هذا الشعب، والقيمة العليا لصموده، لا بالنسبة له، بل بالنسبة للعرب على طول لحظات عربية ممتدة من الرداءة والعجز وقلّة الحيلة والمؤامرة وانطماس الوعي والبصيرة، وبالنسبة للعالم الذي لم يحمّل الفلسطينيين هذا العبء فحسب، ولكن الفلسطينيين اليوم، بصمودهم في المقابل، يحتفظون له ببقية الدواء الأخلاقيّ اللازم له!