لم يكن إلغاء السلطة برام الله طلب التصويت ضد الاستيطان الإسرائيلي بمجلس الأمن الدولي، سوى حلقة في سلسلة طويلة من التراجعات و"الهزائم السياسية" المتتالية، سواء سحبها سابقا تقرير "غولدستون" أو تلكؤها في الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية، وحتى التلويح بوقف التنسيق الأمني عشرات المرات دون تنفيذه مرة واحدة على أرض الواقع، بحسب مراقبين ومحللين سياسيين.
اقرأ أيضاً: الأسرى يواصلون العصيان ضد إدارة السجون لليوم السادس على التوالي
كان مقررا أن يتم الدعوة للتصويت أمس الاثنين على مشروع قرار "يطالب (إسرائيل) بوقف فوري وكامل لجميع الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة"، بعد أن وافقت حكومة المستوطنين الفاشية على تشريع 9 بؤر استيطانية بالضفة الغربية في وقت سابق من هذا الشهر، كما أعلنت عن بناء منازل جديدة في مستوطنات قائمة منذ أسبوع.
ويقول مدير وحدة الاستيطان في معهد أريج سهيل خليلية: إن السلطة فوتت فرصة مهمة لوقف الاستيطان، وقد يفتح تراجعها في مجلس الأمن، المجال أمام الاحتلال لتشريع مزيد من البؤر الاستيطانية.
وحذر خليلية في حديثه لصحيفة "فلسطين" من خطر استمرار التمدد الاستيطاني بالضفة وقطع التواصل الجغرافي الفلسطيني.
ورأى أن تراجع السلطة سيستغله وزير ما يسمى "الأمن القومي" الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير الذي طالب بشرعنة 77 بؤرة استيطانية بالضفة بعدما صدّقت حكومة المستوطنين على تشريع 9 بؤر منها، وهذا يعني أن هناك 68 بؤرة تحتل مساحة كبيرة من الأرض.
مقايضة ورشوة مالية
لم يكن إلغاء التصويت مفاجئًا للكاتب والمحلل السياسي عمر عساف، قائلا: "عودتنا السلطة أن لا نثق بمواقفها، ودائما تتراجع أمام أي ضغط أمريكي أو إسرائيلي".
ويعتقد عساف لصحيفة "فلسطين" أن السلطة تراجعت عن التصويت مقابل رشوة مالية تبلغ 200 مليون شيقل حصيلة تعديلات الاحتلال على ضريبة الجسور "المعابر"، واصفا ذلك بـ"عار تقوم فيه بمقايضة الحقوق الوطنية مقابل رشوة مالية أو استجداء لقاء مع الرئيس الأمريكي جو بايدن".
ووصف مبررات السلطة بأن التراجع جاء نتيجة وعود أمريكية بتجميد الاستيطان الإسرائيلي لفترة زمنية "اسطوانة مشروخة" تسمع كل مرة، متهمًا السلطة بـ"اللهو واللعب بالقضايا الوطنية"، خطورتها تتمثل بمضيها على ذات النهج.
وأضاف أن السلطة "لا تريد الاستفادة من أخطائها وهي ماضية في سياسة التجاوب مع الاحتلال وأمريكا، ولا تريد التراجع عن نهج جلب الويلات للشعب".
وفي عام 2009 تراجعت السلطة عن طرح تقرير "غولدستون" للتصويت بمجلس الأمن الدولي والذي يتهم دولة الاحتلال بارتكاب جرائم حرب في عدوانها على قطاع غزة (2008 -2009) مقابل العودة لمفاوضات التسوية والحصول على مساعدات مالية واقتصادية. وفيما بعد تخلت الإدارة الأمريكية عن وعودها واعترفت السلطة على لسان قادتها بأنها أخطأت عندما تراجعت.
لكن لم تتعلم السلطة مما يصفه المراقبون من "خطاياها السياسية"، فرغم انضمامها إلى الأمم المتحدة وحصولها على صفة عضو مراقب بالمنظمة الدولية، فقد تأخرت ثلاث سنوات حتى انضمت بخطوات متثاقلة مصحوبة بالتردد والخوف لمحكمة الجنايات الدولية عام 2015، وحتى اللحظة لا زالت تدعم خيار فحص "اختصاص المحكمة" وليس إحالة الملفات، خشية الرد الأمريكي، وسط اتهامات لها أنها تستخدم الملف القانوني كورقة ضغط سياسية.
اقرأ أيضاً: حماس: بيان مجلس الأمن يعبّر عن هشاشة وضعف الموقف الدولي
في موضوع اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة رغم قسم قطعه رئيس السلطة محمود عباس بإحالة ملف قتلها لمحكمة الجنايات الدولية، إلا أنه لم يتم حتى اللحظة، بل قام بتسليم الرصاصة التي استهدفتها للجانب الأمريكي.
ولم تلتزم السلطة كذلك بتنفيذ واحدة من عشرات الإعلانات التي صدرت على لسان رئيسها محمود عباس بأنها ستتحلل من التزامات اتفاق "أوسلو"، ولم تلتزم بقرارات عديدة أصدرتها بوقف التنسيق الأمني وبقيت القرارات المعلنة حبرًا على الورق، ولم يتوقف التنسيق لحظة واحدة، وفق المراقبين ذاتهم.
أسلوب مبتذل
ويقدر أستاذ الإعلام بجامعة بيرزيت نشأت الأقطش، عدد المرات التي أعلنت فيها السلطة وقف التنسيق الأمني بنحو 64 مرة منذ 2000، معتقدًا أن التلويح والتهديد ثم التراجع أصبح "أسلوبا مبتذلا"، ويدلل على أنها "لا تملك أي أوراق سياسية".
وأشار إلى "غياب الثقة بين قيادة السلطة والشعب كنوع من حالة الانفصام بين ما يريده الشارع والسلطة.
وقال الأقطش لصحيفة "فلسطين": إن "السلطة في كل مرة انسحبت فيها تعرضت للمساومة، وفي المقابل يتوسع الاحتلال في بناء الاستيطان حتى تجاوز عدد المستوطنين قرابة مليون.
فيما يرى مدير مركز يبوس للدراسات سليمان بشارات أن السلطة تحاول كسب الوقت أكثر من حل القضايا العالقة، وتحاول تجريب خيارات دون الذهاب لنوع من القطيعة والتصادم السياسي حتى لا تقع في إشكاليات مع الأطراف الدولية، خاصة ما يتعلق بموضوع التمويل الغربي.
وقال بشارات لصحيفة "فلسطين": "إن أمريكا ضغطت على السلطة لطلب إلغاء التصويت ضد الاستيطان قبل استخدام حق النقض الفيتو، بهدف توفير غطاء للاحتلال، وربما استخدمت واشنطن سياسة العصا والجزرة عدا عن الأدوار الأخرى"، معتقدًا أن السلطة منذ نشأتها بقيت مرهونة بقضايا الدعم المالي والتكتلات السياسية وطبيعة الأحداث وتطوراتها.