شاب في مقتبل العمر عاش لأجل حلمٍ قُدر له ألا يكتمل؛ بدأت تفاصيل حكايته في التاسع من آب/ أغسطس الماضي؛ كان ذلك في الساعة الثالثة فجرًا حين عاد الشاب رائد الصالحي (22 عامًا) إلى منزله على غير عادته؛ فقد اعتاد السهر يوميًا في البيت لمتابعة آخر الأخبار واقتحامات الاحتلال الليلية لمدن الضفة.
في تلك الليلة حين عاد بدَّل ثيابه واسترق غفوة نومٍ قصيرة استيقظ منها فزعًا على إثر مداهمة قواتٍ إسرائيلية خاصة وبسيارات مدنية لمنزله.
تحوَّل البيت الواقع في مخيم الدهيشة جنوب بيت لحم، من بيتٍ آمن إلى ساحة حرب، ليستهدف الاحتلال شابًا عاش من أجل تحقيق حلمين؛ أولاهما إنشاء مكتبات خشبية ثقافية في شوارع المخيم للتحفيز على القراءة، أما الثاني فهو السفر إلى فرنسا، لكن الاحتلال لطالما وقف بالمرصاد لكل الطامحين نحو العلا.
وبالعودة إلى حدث المداهمة؛ فإن قوات الاحتلال أطلقت وابلًا من الرصاص على الشاب المثقف بعد أن قفز من شرفة المنزل محاولًا الهرب من أيدي جنود الاحتلال، إلا أن المخيم بالكامل حوصر من قوات الاحتلال في تلك الليلة، لتستقرَّ في جسده نحو سبع رصاصات حسبما يروي شقيقه خالد الصالحي (23 عامًا) التفاصيل لصحيفة "فلسطين".
على مرأى من والدته وإخوته سقط رائد على الأرض مصابًا نزف دمه بما يكفي ليكتب قصة بطولية خاض معركتها مع جيش الاحتلال، فقد بقي نحو ساعةٍ ونصف على هذا الحال يتدفق الدم من جسده، وكلما حاول أحد أشقائه الاقتراب لإسعافه أطلق جنود الاحتلال النار عليه.
أسيرٌ بالعناية المركزة
لكن شقيقه الأكبر "بسام" لم يقبل بأن يموت أخوه أمام ناظريه، فقد سحبه تحت أزيز الرصاص وهرب به من المنزل، ومرة أخرى كان جنود الاحتلال بانتظاره في الخارج، حينها سحبوا "رائد" المصاب وجروه على الأرض ولم يكن قد فارق الحياة، مع أن الاحتلال لم يقدم له إسعافات أولية، وبعد مرور ساعتين وصل إسعاف الاحتلال ونقله إلى مستشفى هداسا عين كارم بالقدس المحتلة وهو في حالةٍ خطرة.
رقد "رائد" منذ ذلك اليوم في غرفة العناية المركزة، ولم تعرف عائلته أي شيءٍ عن وضعه الصحي، كما أن الاحتلال لم يسمح بدخول محامٍ إليه، ووضع شروطًا تعجيزية بغرض الانتقام؛ فقد أخفى معلومات عن حالته الصحية، بحجة "السرية" وأن الإدلاء بها بحاجة لموافقة المريض.
وبعد أسبوعٍ من اعتقال رائد مصابًا، قدمَ أحد ضباط الاحتلال إلى منزل "الصالحي" وقال بنبرة متهكمة أراد منها أن يرش الملح على الجرح؛ لأم رائد: "نأسف على ما حدث، لدي صورة لابنك وهو يرقد في العناية المركزة إن كنت تودين رؤيتها".
بدت ملهوفة مصدومة وهي تتأمل صورة ابنها الممدد على سرير العناية المركزة حيث الأسلاك الطبية تتشابك على جسده، ثم أكمل الضابط استفزازه: "بدي آخذ ابنك محمد أربيه وأرجعه"، وبالفعل اعُتقل ابنها الثاني وحُكم عليه بالسجن الإداري لمدة أربعة أشهر حتى ديسمبر/ كانون أول القادم.
حلم لم يكتمل
وبعد إهمالٍ متعمد لرائد الذي أمضى أيامه الأخيرة في حالةٍ خطرة؛ استشهد متأثرًا بإصابته يوم الأحد الماضي في مستشفى "هداسا"، لتنتهي معه أحلامه التي تنضح شبابًا قبل أن تتحقق، ليرتقي شهيدًا، ويُدّون اسمه في سجلات البطولة.
رائد كان يقاوم (إسرائيل) بالحجر ويشارك في الأنشطة الثقافية بالمخيم وخارجه، إذ كان حلمه، وفق رواية شقيقه، أن يقيم 30 مكتبة خشبية في شوارع المخيم للتحفيز على قراءة الكتب، أنجز واحدة منها أمام منزله، كما أن له أنشطة توعوية عديدة.
وهو أسير محرر، كان قد اعتقله الاحتلال في شهر سبتمبر/ أيلول 2014م خلال مواجهات بقرية الخضر غرب بيت لحم، وتعرض حينها لإصابة بقدمه وأمضى في سجون الاحتلال ستة أشهر.
وقبل أسبوع من الاعتقال، تلقى رائد اتصالًا من ضابط الاحتلال المعروف ببطشه ببيت لحم، هدده حينها قائلًا: "بوعدك إذا ما بتسلم حالك راح أطخك قدام أمك"، رائد الذي يرفض فكرة الاستسلام والأسر، لم يأبه لذلك التهديد، وأصر على تقديم روحه مقابل عدم سجنه، حتى أنه أبلغ والدته بالاتصال معتقدًا أن الأمر لن يخرج عن حدود الضرب والاعتقال، وتمنى أن يربط الله على قلبها بالصبر إن حدث اعتداء عليه.
الضابط نفسه هدد نحو 60 شابًا من بيت لحم بإطلاق النار على منطقة المفصل في القدم، ونفذ ما هدد به؛ وفقًا لشقيقه خالد.
هذا الشاب صغير السن كبير الطموح، لم يستطع إكمال دراسته الثانوية نتيجة تعرضه للسجن والإصابة عام 2014م، ولم تخلُ حياته من حب تربية القطط، فيقول شقيقه: "كان رائد متعلقًا بتربية القطط، ولديه خمس منهن"، مضيفًا بتعجب: "منذ حادثة اعتقاله ونحن نرى إحداهن تخرج يوميًا إلى سور المنزل وتجلس بمفردها لفترة طويلة، الناظر إليها يدرك أنها حزينة، فشقيقي كان يعتني بها كثيرًا".
وفي آخر أيامه، كان رائد يسعى لتحقيق حلمه الثاني وهو السفر إلى فرنسا، إذ أودع مبلغًا من المال في حسابه البنكي في إطار الاستعداد لإجراءات السفر، بالرغم من مخاوفه بأن تتعرض له سلطات الاحتلال وتعيق سفره.