أقدم نظام الأبارتهايد العنصري الإسرائيلي، وهو أوسع بكثير من الحكومة الإسرائيلية، على سلسلة خطوات خطيرة، بما في ذلك إنشاء تسع مستعمرات استيطانية جديدة، واتخاذ قرار بإعادة بناء أربع مستعمرات سبق أن فُككت في شمال الضفة الغربية، وتمثل ذلك رضوخًا كاملاً لمطالب حركة الاستيطان الفاشية، وله مغزى كبير، إذ إنه يمثل تراجعًا عن كل ما سمّيت "عملية السلام"، و"إجراءات بناء الثقة" التي يحلو للإدارات الأميركية التغنّي بها.
وأضيف إلى ذلك تصويت الكنيست على قانون سحب الجنسية من كل من يُتهم بالمشاركة في المقاومة، سواء كان مقيمًا في القدس أو الداخل، والتحضير لقانون آخر لإبعاد عائلات الأسرى والمناضلين الفلسطينيين، وسحب الجنسية منهم، ويعني تمرير ذلك القانون أربعة أشياء على الأقل.
أولاً: لا توجد في (إسرائيل) معارضة يهودية أو صهيونية، عندما يتعلق الأمر بالتنكيل بالفلسطينيين واضطهادهم عنصريًا، إذ صوّت لدعم القانون 94 نائبًا من الأحزاب الصهيونية، بالرغم من أن الحكومة لا تملك سوى 64 صوتًا، وعارضه فقط عشرة نواب ينتمون جميعهم إلى القوائم العربية، وهذا يثبت مرّة أخرى، عدم وجود فروق جوهرية بين الأحزاب الصهيونية في الأهداف، وإن هناك اختلافًا في الأساليب.
ثانيًا: يمثل قانون سحب الجنسية إضافةً أخرى لتعزيز منظومة الأبارتهايد والتمييز العنصري بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين، ويطرح هنا السؤال المشروع: لو لم يكن القانون عنصريًا، فلماذا لا يشمل سحب جنسية المستوطن الإسرائيلي اليهودي الذي أحرق عائلة دوابشة الفلسطينية، أو المستوطنين الذين أحرقوا الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير حيًا في شعفاط؟ ولماذا لا تُسحب الجنسية من إيغال عمير قاتل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين، الذي حرّض نتنياهو شخصيًا عليه؟
ثالثًا: يمثل قانون سحب الجنسية المقرّ، والذي سيقرّ، واحدًا من أشكال العقوبات الجماعية المخالفة للقانون الدولي.
رابعًا: يمثل القانون تشريعًا إضافيًا لعمليات التطهير العرقي ضد الفلسطينيين في القدس وبقية فلسطين، وقد يكون مقدّمة لقوانين أخرى لترحيل ليس فقط المتهمين بالمقاومة، بل من يُتهمون بالتحريض، أو معارضة الإجراءات الإسرائيلية.
وبالعودة إلى قرارات بناء مستعمراتٍ استيطانية جديدة في الضفة الغربية، وإعادة بناء مستوطنات فُكّكت سابقًا، بما يشمل بناء عشر آلاف وحدة استيطانية جديدة في الأراضي التي يُفترض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية في إطار ما سمّاه الغرب والولايات المتحدة "حلّ الدولتين"، يُطرح السؤال الطبيعي: "أين الخط الأحمر الذي لا يُسمح لـ(إسرائيل) بأن تتجاوزه، وأين هو ذلك الخط الذي يؤدّي تجاوز (إسرائيل) له إلى فرض عقوباتٍ عليها، كما فُرضت من قبل عقوبات على روسيا، والعراق وغيرها؟ ألا يمثل فرض نظام الأبارتهايد تجاوزًا لذلك الخط؟ وإذا كانت الدول الغربية تواصل الاعتراض (فقط الاعتراض) على التوسّع الاستيطاني لأنه يدمّر، حسب بياناتها، "حلّ الدولتين"، وإذا كان تحقيق التسوية مرتبطًا بذلك الحل، فلماذا لا تُفرض أي إجراءاتٍ عقابية على (إسرائيل)؟ ولماذا تعترض الدول الغربية وتصوّت ضد حقّ الفلسطينيين في اللجوء إلى القانون الدولي ومحكمة العدل الدولية؟ لماذا يُدان الفلسطينيون إذا قاوموا الاحتلال، ولا يُدان جيش الاحتلال حتى عندما يرتكب جرائم وحشية، مثل مجزرة جنين، ومجازر هدم البيوت الآمنة في سلوان وجبل المكبر؟
بحث الدبلوماسيون الفلسطينيون طويلًا عن ذلك الخط الأحمر، وأقنعوا أنفسهم بضرورة بذل مزيدٍ من الجهود، وكشف الحقائق حتى تزول الغمامة عن أعين الدبلوماسيين الغربيين، ويروا أن (إسرائيل) تجاوزت فعلًا الخط الأحمر. وبذلت منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والدولية جهودًا عظيمة وأحيانًا بطولية، لإيضاح تجاوز (إسرائيل) الخط الأحمر المُفترض.
وفي الانتفاضة الأولى التي كانت في غالبها هبّة مقاومة شعبية غير مسلحة، انكشفت (إسرائيل) بكل وسيلة ممكنة كقوة احتلال قمعية تضطهد شعبًا أعزل، ولم يظهر الخط الأحمر، وحاول الدبلوماسيون الغربيون إقناع الفلسطينيين بأنهم سيتخلصون من الاحتلال بعد الانتهاء من حرب العراق الأولى لتحرير الكويت، وبدأوا عملية تسوية في مؤتمر مدريد، قال فيها رئيس وزراء (إسرائيل) في حينه، إسحق شامير، إنه سيفاوض الفلسطينيين عشر سنوات ولن يحصلوا على شيء، فجعلها نتنياهو 32 عامًا وقبر بيديه ما سمّاها الغرب "عملية السلام" على مرأى الراعين لها ومسامعهم، ولم يظهر الخط الأحمر.
امتلك الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر، ما يكفي من الشجاعة، بعد لقاءاتنا به ليكتب كتابًا عنوانه "سلام وليس أبارتهايد"، فوقع ضحية هجماتٍ صهيونية اتهمته بتجاوز خط أحمر آخر هو "خط انتقاد (إسرائيل)" الذي أصبح كلّ من يتجاوزه متهمًا بالعداء للسامية، بما في ذلك منظمات محترمة، مثل أمنستي إنترناشيونال، وهيومان رايتس ووتش، وبتسيلم الإسرائيلية.
لم يكتشف أحد حتى اليوم الخط الأحمر الذي يؤدّي تجاوز (إسرائيل) له إلى فرض الحكومات الغربية عقوبات عليها، ولن يكتشفوه، لأنه غير موجود، ولا أكتب ذلك بهدف إقناع أي طرف خارجي بما أقول، بل هي نصيحة للأجيال الشابة الفلسطينية والعربية بأن لا يُخدَعوا بما خُدع كثيرون من أبناء جيلنا به، فنحن نعيش في عالم تحكُم الحكومات فيه المصالح الخالصة، لا المبادئ والقانون الدولي، وهناك فرقٌ كبير بين سياسات الدول ومواقف الشعوب.
لن يحكّ جلدَنا إلا ظُفرُنا، ولن تردع الفاشية الإسرائيلية إلا بمقاومتها، وإقناع كل شعوب العالم بمقاطعتها وفرض العقوبات عليها، ولا تضيعوا وقتكم وأعماركم في البحث عن الخط الأحمر لأنه غير موجود.