فلسطين أون لاين

جنرال الصبر رغم قسوة العزل وطول المحكومية

تقرير بالمؤلفات.. الأسير محمود عيسى يضيء عتمة السجن

...
الأسير المقدسي محمود عيسى
القدس المحتلة – غزة/ فاطمة الزهراء العويني:

بين دفتي الكتب يقضي الأسير المقدسي محمود عيسى أغلب وقته خلف قضبان سجون الاحتلال، التي سرقت 30 عامًا من حياته، قضى أغلبها في عزل انفرادي لا يرى فيه نور الشمس، ومحرومٌ من زيارة ذويه، في حين لا تلوح للاعتقال نهاية في الأفق القريب.

ففي روايته "حكاية صابر" يسرد عيسى جزءًا من معاناة شعبه، ومعاناته كمناضل لتحصيل حقوق هذا الشعب، فيقدم تلك الرواية بالقول: "حكاية شخص تُجسّد حالة شعب، وحكاية شعب تتجسد في شخص، فيها مزج بين الواقع والخيال"، يروي فيها المراحل الصعبة التي عاشها شعبنا، تاركًا النهاية مفتوحة للقراء.

تحدي العزل

والرواية جزء من عدة مؤلفات للأسير عيسى، خرجت للنور عبر دور النشر، منها: "المقاومة بين النظرية والتطبيق" و"قادة هذه الحرب"، و"قامات الضوء"، ومجموعة قصصية بعنوان "الوفاء" وغيرها.

تلك المؤلفات أخرج "عيسى" عددًا منها من عتمة زنزانته في العزل الانفرادي، الذي قضى فيه قرابة 15 عامًا، منها 13 عامًا متواصلة، كما تُبيّن شقيقته انتصار لـ"فلسطين".

وتقول: "يمكن لأيّ إنسان تخيّل وضع محمود وهو معزول عن البشر جميعًا، لا يعرف الأيام من بعضها، لا يشعر بعيد ولا بصلاة جمعة، إنها قمة المعاناة".

وتشير إلى أنّ شقيقها عمل قبل اعتقاله صحفيًّا ومديرًا لمكتب "صوت الحق والحرية" في القدس، وهو حاصل على درجة البكالوريوس في التحاليل الطبية، واعتقله الاحتلال في الثالث من يونيو عام 1993م.

وتضيف انتصار: "اعتُقل محمود في سنّ الـ24، وقد مرت ثلاثون عامًا وهو في المعتقل، وظلّ في العزل الانفرادي حتى نجح الأسرى عبر إضراب الكرامة في عام 2012م بإخراج الأسرى المعزولين".

في مدة العزل الطويلة لم يكن يُسمح للعائلة، وفق انتصار، بزيارة محمود، ولم يكونوا يعلمون عن حاله شيئًا سوى ما يرد إليهم من زيارة المحامين واللجنة الدولية للصليب الأحمر له، كل شهر أو شهرين.

وبعد خروجه من العزل، ذهب أشقاؤه وشقيقاته برفقة والدته إلى زيارته، كان مشهدًا صادمًا "صعقت أمي من هيئته، تغيّر كثيرا، عن آخر مرة رأيناه فيها عندما كان شابًّا يافعًا، أنهكه العزل الانفرادي، لكننا حمدنا الله أنه لم يؤثر عليه نفسيًّا وصحيًّا".

فقد موجع

أما شقيقته فاطمة فتُبيّن لـ"فلسطين" أنّ أصعب الأمور التي حدثت لـ"محمود" داخل سجنه هو فقدان والدتنا. "بالنسبة له تُمثل صلة الربط بينه وبين الحياة في الخارج، ويُصبّره وجودها على مرارة السجن".

وتضيف: "بقدر ألمنا على وفاة الوالدة كان يشغلنا كيف سنخبر محمود بذلك، لم يستطع رفاقه في الأسر إخباره في اليوم الأول للوفاة، وانتظروا لليوم الذي يليه وقد ترافق ذلك مع حملة قمع نفّذتها إدارة سجن نفحة في ديسمبر 2021، تخللها تكبيل الأسرى ووضعهم في العراء في ظلّ البرد القارس".

وتتابع: "كانت قلوبنا هناك مع محمود نخشى أن يؤذوه ونخشى عليه من الحزن، كان الناس حولنا يعزّوننا ونحن لا نشعر بهم، نسترق السمع للأخبار التي ترد من السجون (...) حتى الحزن في السجن غاية في الألم والصعوبة".

كانت آخر زيارة لوالدة محمود له في السجن، قبل وفاتها بعاميْن، إذ مرت بحالة مرضية صعبة لا تعينها على الزيارة "بالكاد للحالات المرضية بزيارة أبنائهم مرة في العام".

لن نتركه وحيدًا

للأسير محمود عيسى أربع شقيقات، وثلاثة أشقاء يجدولون مواعيد الزيارة بينهم، "ففي كل زيارة يخرج أحد الأشقاء وإحدى الشقيقات لزيارته، نحاول أن يظل مربوطًا بالعالم الخارجي كما كانت تفعل أمي".

وتمضي "فاطمة" بالقول: "رغم كل ما مرّ به يتمتع محمود بمعنويات عالية، يبتعد عن المأكولات غير الصحية قدر الإمكان، ويواظب على ممارسة الرياضة، ويقضي وقته في مكتبة السجن، ويشرف أيضًا على طهو الطعام للأسرى، وحاليًّا يدرس البكالوريوس في العلوم السياسية".

ويتجاذب "محمود" مع أشقائه أطراف الحديث عن أبنائهم الذي يحرصون في كل مرة على اصطحاب صور حديثة لهم، كي يراها، "فهو لا يعرفهم إلا بالصور، فلا يُسمح لهم بزيارته، أجيال كبرت، وأخرى وُلدت، كثيرون تخرّجوا وتزوّجوا دون أن يكون "محمود" برفقتنا".

ويجد الروائي الأسير في أخبار وإنجازات أشقائه رابطًا اجتماعيًّا قويًّا، "فهو دائم السؤال عنهم، يتتبع أخبارهم ويحذوه الأمل بأن يراهم يومًا وهو خارج قضبان السجن".

في حين يحتل الحديث عن الذكريات مع الوالدة، وفق فاطمة، كثيرًا من وقت الزيارة "يحدثنا عما كانت تفعله في موسم قطف الزيتون وحبها لأشجاره وعنايتها به".

أول خلية عسكرية

واعتقل الاحتلال "محمود" برفقة زملائه الثلاثة ماجد أبو قطيش وموسى عكاري ومحمود عطون، بتهمة تشكيل أول خلية عسكرية لـ حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في القدس، واتهمت بالتخطيط لتحرير الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، وكان حينذاك معتقلًا في سجون الاحتلال.

ونفّذت الخلية قبل اعتقالها واحدة من أشهر عمليات أسر الجنود الإسرائيليين في تاريخ المقاومة الفلسطينية، إذ تمكنت من اختطاف الضابط نسيم توليدانو قرب مدينة اللد يوم 13 ديسمبر/ كانون الأول 1992، وطالبوا بالإفراج عن الشيخ ياسين مقابل تسليمه.

ورفض الاحتلال الاستجابة لمطلبهم فقُتل الضابط، وتبع ذلك حملة شرسة على حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وإبعاد أكثر من أربعمئة فلسطيني إلى جنوب لبنان، واعتُقل عيسى وخليته بعد ستة أشهر من العملية، وحُكم عليه بالسجن المؤبد ثلاث مرات و46 عامًا.

استمر التحقيق مع عيسى وخليته أكثر من شهرين بعد اعتقالهم، لكنه لم يقدم اعترافًا للمحققين وكان يرفع شعار "الاعتراف خيانة"، ودفع مقابل ذلك فترات طويلة في العزل الانفرادي.