تعيش الحاجة حليمة شماسنة على أمل دائم بأن أبواب سجون الاحتلال المؤصدة على اثنيْن من أبنائها ستفتح يومًا، لكنها تخشى ألا يسعفها العمر لاستقبالهما بعدما جاوزت الثمانين عاماً.
ومنذ ست سنوات خلت، لم تعد "حليمة" وزوجها الكهل يقويان على زيارة نجليهما عبد الجواد ومحمد. أصبحت حركتهما ثقيلة، لا يستطيعان قطع المسافة الطويلة بين بلدة قطنة شمال غرب القدس المحتلة وسجنيْ "رامون" و"نفحة" حيث يقبع ابناهما.
مضت ثلاثون عامًا على اعتقال الشقيقين، ولا تزال ذاكرة الحاجة حليمة تعج بأحداث ذلك "اليوم الأسود" الذي انتزع فيه الاحتلال ابنيْها عبد الجواد (58 عاما) ومحمد (52 عاما) من حضنها.
تقول: "كنا لتونا قد انتهينا من سهرة عائلية في منزلنا، وعاد ابناي لمنزليْهما المجاوريْن لنا، داهمت قوات جيش الاحتلال منزلنا وأخذوا يسألون عنهما وعاثوا في البيت فساداً".
لم يعثر عليهما جيش الاحتلال في منزل والدهما، فتحركت قوتان واحدة لمنزل عبد الجواد والأخرى لمنزل محمد وثالثة لمنزل ابن عمتهما وزوج شقيقتهما إبراهيم واعتقلوا جميعاً، "كان الحدث مفاجئاً فولداي لم يكن لهما أي نشاط سياسي، وكانا يعملان في الداخل المحتل، لم نعلم شيئاً عنهما مدة خمسين يوماً".
وبعد أيام عاد جيش الاحتلال واعتقل حليمة وزوجة عبد الجواد وشقيقة إبراهيم وأبقاهن قيد الاعتقال مدة عشرين يوماً خضعن خلالها لتحقيق مكثف، خاصة زوجة عبد الجواد التي اتهمها الاحتلال بأنها شريكته في أعمال المقاومة.
تضيف الحاجة حليمة: "خضعت زوجة ابني لتحقيق قاسٍ أكثر من سبع ساعات يومياً. وقتها كانت حاملا في الشهر الثامن، حققوا معنا عن كل ما يتعلق بالمعتقلين الثلاثة، ثم أفرجوا عنا".
وتتابع: "يا ليتهم لم يفرجوا عني وأفرجوا عن أبنائي، لقد أوقعوا بحقهم حكماً قاسياً فحكم عبد الجواد بأربعة مؤبدات و20 عاماً، ومحمد بثلاثة مؤبدات و20 عاماً، وإبراهيم "ابن عمتهما" بخمسة مؤبدات (أُفرج عنه لاحقاً ضمن صفقة وفاء الأحرار وأُبعد إلى قطر)".
كبر الأبناء والأحفاد
وفي أغلب مرات التصعيد التي تحدث بين الأسرى وإدارة سجون الاحتلال يتطوع محمد لأخذ العقوبة نيابة عن زملائه، متذرعًا بحكمه الطويل، فلا يضيره زيادة سنة أو سنتين، "حتى زادوا له على حكمه سبع سنوات كاملة"، تقول الحاجة حليمة.
ترك الأسيران وراءهما أطفالاً صغاراً في السن، فـ"محمد" ترك وراءه ثلاث بنات، كانت أصغرهن تبلغ من العمر شهريْن، في حين ترك عبد الجواد وراءه سبعة من الأبناء، لم يشهد الأبوان على طفولتهم ولا شبابهم.
كانت الحاجة "حليمة" ترفض أنْ تُقيم أي فرح في بداية اعتقال ابنيْها، "لكن لم يعد بالإمكان أن نوقف عجلة الزمن، اضطررنا لتزويج الأبناء حتى أبناء عبد الجواد ومحمد. كان قلبي يعتصر ألماً في كل مناسبة لكن ما باليد حيلة".
وما يزيد من ألم الحاجة حليمة أن المرض أقعدها عن زيارة ابنيْها فلا تستطيع الوصول إليهما أو رؤيتهما، "لم أكن أتغيب أبداً عن زيارتهما، عندما كنتُ قادرة على ذلك. اعتقلا وأنا أبلغ من العمر خمسين عاماً أما اليوم فقد جاوزت وزوجي الثمانين، ما يجري فوق طاقتنا ويفوق قدرة البشر على التحمل".
تتلهف الحاجة حليمة شوقاً لسماع الأخبار من زوجتيْ ابنيْها وأبنائهما عما يحدث خلال زيارتهم لهما، "وتكون أجمل لحظاتي عندما يأتيني أحد الأسرى المفرج عنهم ليخبرني عن أحوالهما".
وما كان يخفف عني أنهما ظلا معًا في سجن واحد مدة خمسة وعشرين عاماً، لكن الاحتلال مؤخراً فرق بينهما، فأودع عبد الجواد في سجن نفحة، ومحمد في سجن رامون.
وتشير إلى أن محمد أنهى دراسته الجامعية في السجن في حين لم يتمكن عبد الجواد من ذلك، "جميع مَنْ يعايشونهما من الأسرى يستغربون من معنوياتهما المرتفعة بالرغم من الحكم العالي المفروض عليهما.. لكنني أتمنى أن أحضنهما ولو مرة واحدة قبل موتي".
أسئلة لم تنقطع
أما زوجة عبد الجواد "مريم" فقد قاست كثيراً في سبيل تربية أبنائها السبعة، خاصة أنهم جميعاً كانوا صغاراً، أصغرهم "يوسف" كان جنيناً في بطنها وقت أسر والده، "لم يكن الأمر بالسهل لكن الخير لم ينقطع في شعبنا، ووقف بجانبي أبناء الحلال".
تضيف: "مرت السنوات حتى تزوج يوسف وأصبح لديه ولد، أكبر أحفاد عبد الجواد في السنة الأولى من دراسته الجامعية، وهو ما زال قيد الاعتقال".
لم تشعر "مريم" أبداً بفرحة كاملة منذ غياب زوجها، بدءاً من أسئلة أبنائها المتلاحقة عن موعد عودة والدهم وهم صغار، وصولاً لتخرجهم وزفافهم، "لم يكن أي شيء سهلاً، لكن ماذا بيدنا لنفعله؟".
وكلما زارت "مريم" زوجها لا يمل من سؤالها عما يحدث في الخارج عن أحوال الأولاد، والبلد من حولها، وما ينغص عليه سكينته أن والديْه لم يعودا قادريْن على زيارته.
ويحلم "عبد الجواد" بأن يرى أحفاده لكن إدارة سجون الاحتلال تمنع زيارتهم فلا تعدهم أقارب من الدرجة الأولى، "أتمنى أن أراه حراً وطليقاً حتى لو أُبعد إلى أي دولة في العالم".