اهتزّ قلبها وهي التي لم تغلق جفنيها منذ ساعة تتابع مجريات اقتحام جيش الاحتلال مدينة نابلس، عندما رنّ هاتفها وأضاءت شاشته باسم شقيقتها فجر الإثنين 13 فبراير/ شباط 2023. في العادة لم تستقبل منها اتصالًا قط بهذا التوقيت، ما أثار في داخلها غبار الشك، شاركت زوجها مخاوفها وهي تضع يدها على قلبها: "الله يستر"، لتفتتح المتصلة الحديث بسؤال: "وين ابنك أمير؟".
حاصر الخوف قلب والدة الشاب أمير بسطامي (21 عامًا)، وأوشكت على البكاء مبكرًا، صمتت لحظة وكأنّ القلق قيّد أحبالها الصوتية ولم تستطع حروفها الجريان من مخارجها، قبل أن تتماسك وتعيد السؤال: "ليش بتسألي؟ أمير صايرله شي؟"، لم تترك ما يطمئن شقيقتها، ولا ما يضع نقطة نهاية تُوقف اجتياح أفكار واحتمالات كثيرة بدأت تغزو وجدانها بشأن مصير ابنها الوحيد من الذكور الذي أوقدت له شمعة ميلاده الواحدة والعشرين قبل أيام فقط.
استعرت مخاوفها أكثر مع استمرار تصاعد أصوات الرصاص في الخارج، اقتحم صوتها فضاء المنزل، تبحث عن طوق نجاة ينعش آمالها، "طلة أمير وعودة ضحكته وحضوره إلى البيت" أصبح كل أمنيتها.
قبل الاتصال السابق جاء للبيت وأحضر عشاءً لأمه وشقيقاته وجلس قليلًا قبل أن يغادر، طلبت منه أمه "ألا يطيل التأخر في الخارج" خشيةً من أيّ تسلسل من "خفافيش الليل" وهو لقب يمكن وصفه على جنود جيش الاحتلال الذين تتم معظم اقتحاماتهم في المساء، فاتصلت به عند الرابعة فجرًا تطلب منه العودة وأخبرها "أنه لن يتأخر وألّا تعاود الاتصال به لأنه يقود دراجته النارية".
الاتصال الثاني
لدقائق حاولت لملمة شتات أفكارها التي تلاعبت بدقات قلبها، قبل أن يرتجّ هاتفها مرةً أخرى، وكان الاتصال من مشفى رفيديا، أخفى المتصل جزءًا من الحقيقة رأفةً بحالها: "ابنك مصاب"، كان صوتها مرتعشًا وهي تسأله: "مستشهد ولا مصاب؟"، فتركها تواجه الحقيقة المُرَّة وحدها: "ما بقدر، تعالي على المستشفى، معي متعلقاته (أغراضه)!".
دوّى صدى صرختها داخل البيت، وارتدّت إلى أُذنَي زوجها، كان يقف بالقرب منها ويستمع لمكالمتين: "يلا نروح المشفى، ابنك استشهد"، كانت تحاول مواساة نفسها تريد تكذيب الخبر.
في المشفى وقفت أمام ابنها المسجى بدمائه بعدما هرعت نحو غرفة العناية المكثفة، كان ساكنًا بلا حركة، تساقطت دموعها على جثمانه وهي تعانقه وتضم أميرها في لقاء الوداع، تطبع قبلة على هامته، تتحسّس وجهه، لا تصدق أنه حزم حقائب الرحيل عنها إلى غير عودة، تخاطبه بدموعٍ تبلل صوتها: "رد عليّ يا أمير، يا رب صبرني على بعده، راح شهيد عند ربه".
يلفُّه علم فلسطين، يرتخي رأسه على الكوفية، تخرج عبارات المواساة من قلوب الجيران والأقارب وأعينهم التي تذرف دموع الحزن والقهر علّها تصبر والده: "ادعيله" يربت أحدهم على كتفه، وينتهي عناق قصير وأخير بين الأب وابنه الشهيد، مهما استعنت بمعاجم اللغة لوصف مشهد أب يُودّع فلذة كبده ووحيده من الذكور فلن تنصف جميع تلك العبارات المشهد، إلا إذا تجرّعت مرارته.
عابر طريق
"كان ابني يقود دراجة نارية، لأنه يعمل عامل توصيل (ديلفري) وبالعادة يتأخر خارج المنزل لتلبية الطلبات، كان يحاول الوصول لركن آمن يُمكّنه من مشاهدة تصدي المقاومين لقوات الاحتلال وتوثيقها بمقاطع فيديو بهاتفه ونشرها، لكنّ قناصة الاحتلال أطلقوا رصاصة على خاصرته من الجهة اليمنى واستُشهد" ينقل والده لصحيفة "فلسطين" ما رواه له شهود عيان عن تفاصيل الجريمة.
ترافق الصدمة صوته: "لم يكن نجلي مقاومًا، هو فقط أحب رؤية أعمال المقاومة، كان عابر طريق، لكنّ جنود الاحتلال يقتلون أيّ جسم متحرك على دراجة نارية خلال الاقتحامات معتقدين أنهم يقومون بإبلاغ المقاومين عن تحركات الجنود، فما حدث جريمة إعدام لنجلي بدم بارد".
أحب أمير رؤية ما يفعله المقاومون في البلدة القديمة، كان معجبًا ببطولات "عرين الأسود" وشهدائها البارزين كإبراهيم النابلسي، ووديع الحوح، وتامر الكيلاني، ومحمد العزيزي، ويحب كل من يتمسك بفلسطين ويرفض الاحتلال، لم يتخيل والده أنّ نجله سيلحق بهم.
كان الشهيد أحد رواد حلقات التحفيظ في مسجد "الحاج معزوز المصري" بنابلس، إضافة لذلك يملك مشروعًا شخصيًّا يحمل اسمه (ديلفري الأمير)، كان آخر طلبات أوصلها هي "سندويتشات" لوالدته، جلس معها قليلًا قبل أن يغادر لتلبية طلبات أخرى، غادر ولم يعد وبقيت حسرة الفراق تحرق قلب الوالدة.
قبل أيام اجتمعت العائلة حول قالب حلوى (جاتوه) وأوقدت شمعة ميلاده الـ 21، قبّلته والدته وابتسم لها، ولم تدرِ أنها ستطبع نفس القبلة على الجبين ذاته لكنه هذه المرة لم يبتسم، بعد أن قتلته رصاصة إسرائيلية، وجعلته أميرًا على عرش الشهادة، وزين سماء نابلس في تلك الليلة الباردة، كان دمع والدته حارًّا يحرق قلبها.