أن تولد بين والديك وإخوتك وجديك في منزل دافئ صغير هو بالنسبة لك كل الوطن، يعني أنك ملكت نصف جمال الدنيا، ذاك الجمال الشعوري البعيد عن أية مآرب أو مطالب مادية، فكل ما تطلبه هو "سقف" يمنحك وعائلتك الأمان.
أما أن تقضي 7 سنوات عجاف تركض فيها من محكمة إسرائيلية لأخرى تحاول أن تثبت حقك في هذا البيت الصغير الذي يعيش والداك فيه منذ عام 1964 أي قبل احتلال شرقي القدس فهذا لا يمكن أن يطاق.
لن نرحل
ويعتصم محمد شماسنة (45 عاما)، أمام منزله كل يوم، علّ صوته يصل آذانا دولية صاغية، ويشرح: "الجمعيات الاستيطانية تزعم أن منزلنا بالإضافة إلى 8 منازل في حي الشيخ جراح أملاك يهودية تعود إلى ما قبل عام 1948"، لافتا إلى أن المحاكم الإسرائيلية بمراتبها الثلاث (الصلح – المركزية – العليا)، بالإضافة إلى ما تسمى "دائرة الهجرة" أجمعت أن أراضي تلك العائلات ذات ملكية يهودية.
وأضاف شماسنة لصحيفة "فلسطين": "قدمت التماسا لمحكمة الصلح فرفضته، وكذلك للمركزية، ثم صدر القرار النهائي من العليا وهذا القرار لا يمكن استئنافه، وقد أمهلوني حتى التاسع من شهر أيلول الحالي حتى أخلي المنزل".
إلى أين؟ سؤال بديهي أن تطرحه على من سيترك منزلاً ولد وتربى وتزوج وأنجب جميع أبنائه فيه، ليجيب بأسى:" لا منزل ولا بديل ولا حتى تعويض"، مشيراً إلى أن تسع عائلات مقدسية تلقت إنذارات مشابهة بالإخلاء والطرد.
وأفاد شماسنة بأن العائلات المقدسية التسع تتابع قضيتها مع وزارة الأوقاف الفلسطينية، والمملكة الأردنية وكذلك ممثل السفير التركي في الأراضي الفلسطينية علهم يقدمون أوراقَ ملكية تثبت أن الأراضي المقامة عليها هذه المنازل التسعة تعود للأوقاف الإسلامية.
وأكد أن المملكة الأردنية التي كانت تدير الضفة والقدس قبل عام 1967، سمحت لوالده وباقي العوائل المتواجدة في حي الشيخ جراح بالقدس المحتلة، بالبناء والسكن فوق الأراضي الوقفية بموجب عقد إيجار لا يزال موجوداً بحوزته.
وتابع: "منذ عام 1997 وحتى عام 2002ونحن نحاول إثبات أصول الملكية عبر وزارة الأوقاف في عهد الامبراطورية العثمانية"، لافتا إلى أن القائم بأعمال السفارة التركية في الأراضي الفلسطينية أبدى استعداده للتعاون، مؤكداً للعائلات المقدسية التي اجتمعت معه في مقر محافظة القدس أن الحكومة التركية مررت جميع المستندات ذات الصلة للسلطة الفلسطينية.
وشدد شماسنة على أن مفتاح حل قضية هذه العائلات هو بيد المملكة الأردنية والتي حاولت "بعض المؤسسات" التواصل معها لكنها رفضت، مشيرا إلى أن المؤسسات التي يتحدث عنها بررت سبب عدم التعاون بأنه قد يكون بسبب "اتفاقية وادي عربة".
ودعا شماسنة وهو رب أسرة مكونة من ثمانية أفراد مهددة بالطرد، المقدسيين وكل من يستطيع الوصول إلى منزله لأن يشاركه بالاعتصام اليومي بعد صلاة المغرب أمام منزله.
وطالب السلطة الفلسطينية بضرورة إيجاد حل يحافظ على دعم صمود المقدسيين وبقائهم في منازلهم رغم كل ما يكيده الاحتلال لهم.
خطة كبرى
ويرى الناشط المقدسي المتابع لقضية العائلات المقدسية، ناصر الهدمي، أن الاستيطان في حي الشيخ جراح المقدسي يندرج تحت إطار خطة كبرى لفصل أجزاء من المدينة المقدسة.
وقال الهدمي لصحيفة "فلسطين": "انتقل الاحتلال من تكثيف الاستيطان غربي المدينة إلى شرقي القدس ما يعني أنه بدأ بمرحلة حسم قضية القدس وقطع أي طريق أمام خطة التسوية وحل الدولتين".
وفسر ما يقوم به الاحتلال في حي الشيخ جراح، بأنه وأد لأي خطة للحل النهائي، شارحا أن لهذه المنطقة المقدسية مكانة خاصة لأنها أراض يدعي الاحتلال أنه كان يملكها قبل عام 1948 وعندما قسمت القدس انتقلوا للجزء الغربي منها، وبعد عام 1967 بدأت المعارك القضائية حول ملكية هذه الأراضي.
وشدد على أن الاحتلال لم يثبت هذه الادعاءات بل إنه فرضها ويفرضها على المقدسيين بقوة السلاح، موضحاً أن المقدسيين سكان حي الشيخ جراح هم "مهاجرون" من القسم الغربي من المدينة إلى هذا الجزء الشرقي.
وتابع: "المملكة الأردنية وطنت هؤلاء السكان في هذا المكان ولم تعطهم أوراقَ ملكية تثبت انتماءهم لها، وهناك من استطاع أن يثبتها ولكن الغالبية لم تستطع، وهو ما دفعهم للجوء إلى الطابو العثماني لعلهم يثبتون إسلامية الأرض، وبالفعل تمكن البعض من تحقيق مراده لكن الغالبية لا تزال عالقة في براثن القضاء الإسرائيلي".
ونوه الهدمي إلى أن سلطات الاحتلال استغلت فقدان أوراق الملكية أو عقود الإيجار لهذه الأراضي خلال حرب 67م، وتدفع الجمعيات الاستيطانية للمطالبة بها، لا سيما وأن حي الشيخ جراح قريب من المناطق الحيوية اليهودية وقريب من خط الهدنة عام 1948، ويعتبره الاحتلال مدخلا للقدس ومدخلا لجعل المقدسيين أقلية هامشية فيها.
"وأد الدولتين"
وفي سياق متصل، يرى الخبير في شؤون الاستيطان ومنسق دائرة المعلومات الجغرافية والاستشعار عن بعد في معهد أريج، عيسى زبون، أن ما يحصل في حي الشيخ جراح المقدسي ليس منفصلاً عن باقي أحياء المدينة.
وقال زبون لصحيفة "فلسطين": "يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى قلب التوازن الديمغرافي في المدينة من خلال تفريغها من سكانها وتهجيرهم وإحلال المستوطنين مكانهم، حتى لا يبقى أي أثر للحل النهائي".
وذكر أن نسبة الاستيطان في حي الشيخ جراح زاد بنسبة مرتفعة لا سيما بسبب مكانته الاستراتيجية، معتبرا أن ما يجري في هذا الحي هو محاولة لفصله عن المحيط الفلسطيني وجعله خالصا لليهود.
وقال: "تجاوزنا مرحلة دق ناقوس الخطر، ووصلنا إلى مرحلة اللا عودة في ملف الاستيطان، فهو لم يعد يهدد حل الدولتين وإنما شطبه بشكل نهائي".
الجدير بالذكر أن حي الشيخ جراح أُنشئ بالقدس عام 1956 بموجب اتفاقية وقعت بين وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، أونروا، والمملكة الأردنية، وفي حينه استوعب 28 عائلة فلسطينية هجرت من أراضيها المحتلة عام 1948، وبات عدد أفراده اليوم أكثر من خمسمئة نسمة.