لمدة ساعة واصل الأسرى قرع أبواب غرفة القسم بسجن "النقب"، بعد تدهور مفاجئ طرأ على صحة الأسير أحمد أبو علي، فوصل صدى صوت الطرقات والنداءات إلى كل شيء إلا إلى آذان السجانين التي أوصدت أبوابها أمام تلبية النداء.
وعندما أسر الاحتلال "أبو علي" عام 2012، لم يكن يعاني إلا من مرض "السكري"، لكنه في آخر سنة له بالسجن لم يستطِع المشي إلا على عكاز، أو بمساعدة أسرى القسم الذين كانوا يحملونه.
وارتقى الأسير أبو علي وهو من مدينة يطا جنوب الخليل فجر يوم الجمعة الماضي، بعد معاناة طويلة مع الإهمال الطبي في سجون الاحتلال.
اقرأ أيضاً: تقرير الحركة الأسيرة تعلن الحداد.. استشهاد الأسير "أبو علي" نتيجة الإهمال الطبي
بقي عامان لانتهاء حكم الأسير البالغ 12 عامًا، كان قريبًا من كل شيءٍ جميل، أولاده، طفله محمد الذي لم يزد عمره على أحد عشر شهرًا حين اعتقاله، والآن بلغ 11 عامًا خطط لتعويضه عن فترة الحرمان التي عاشها بعيدًا عن عيني والده وأحضانه، تشوق لمدينته التي تعاني من قوات الاحتلال، فارتقى شهيدًا قبل أن يصل إلى بوابة الحرية ويلفظ مرارة الأسر خلفه.
الأسير أبو علي لديه ثمانية أبناء (5 ذكور و3 فتيات) وهو الابن الوحيد من الذكور لوالديه المسنين ولديه 8 شقيقات، كانا يتكئان عليه للدهر عندما يقسو عليهما الزمن.
إهمال طبي
"لم يكن يعاني أبي سوى من مرض "السكر"، وخلال اعتقاله عانى من ضعف في عضلات القلب بعد ثلاث سنوات من اعتقاله، فلم يعطه الاحتلال العلاج اللازم وماطل في تشخيصه باستثناء المسكنات، كانوا يقولون له في كل مرة: "فش فيك إشي"، ثم يعيدونه للقسم بصوت مثقل بوجع الفقد يروي ابنه مراد (23 عامًا) لصحيفة "فلسطين" تفاصيل إهمال الاحتلال لوالده.
بعد المرض تلقّى الأسير صدمة وفاة والده عام 2014، عايش مراد لحظات تأثر جده الذي لم يُقبّل بعد ابنه الوحيد عنه: "كان جدي وجدتي متشوقين إليه، وأبي كان دائم القلق عليهما بحكم عمرهما الذي تجاوز السبعين عامًا، خاصة والده الذي استطاع زيارته مرة واحدة فقط".
في تلك الزيارة "اليتيمة" رافق مراد جده، تسترجع ذاكرته تفاصيلها: "اللقاء كان صعبًا، بمجرد دخولنا السجن أجهش جدي بالبكاء، وهو يردد: "مليش إلا هالولد الوحيد، حسبي الله على اليهود والظالمين"، وبعد إصدار الحكم بسجن أبي 12 عامًا، نزل الخبر ثقيلًا على جدي تدهورت صحته وتوفي على إثر ذلك".
تقفز أمامه صورة من آخر لحظات جده قبل وفاته: "وهو على سرير المرض كان يردد: "بدي أحمد أشوفه"، يقهر الفقد صوت مراد: "لا جدي شافه ولا احنا".
أوجاع أخرى
لم تقتصر المضاعفات الصحية على موضوع معاناته من عضلات القلب، بل أضاف السجن الذي يفتقر لأدنى مقومات الحياة الآدمية وجعًا ثانيًا إليه، فعانى من ألم المفاصل في آخر سنة له قبل استشهاده، لم تستطع قدماه حمله، وربما بعد خبر وفاة والدته، يستذكر: "كانت جدتي تنتظره على أحر من الجمر، حتى أنها كانت تقول: "مش ضايل كتير تايروح أحمد، ضايل سنتين".
يتكئ على عكاز لا يقوى على حمل ثقل أوجاع جسده وألم الفراق، يحمله الأسرى أثناء الخروج في "الفورة" أو لزيارة عيادة السجن إن سمح الاحتلال له بذلك، هكذا عاش الأسير أبو علي سنته الأخيرة، كان الألم يدق مسماره في جسده، لم يسمع أنينه سوى جدران السجن وقضبانه والأسرى.
في الخارج كانت عائلته تترقب انقضاء مدة الأسر، تتلهف شوقًا لرؤيته لتعوضه عن مرارة السجن عندما يتنسم الحرية، فوصله الموت قبل وصوله بوابة الحرية.
يشرح ابنه تفاصيل حالة والده الصحية الأخيرة قائلًا: "تضاعفت حالة أبي بعد ألم المفاصل، الاحتلال أيضًا ماطل في علاجه ولم يستجب لكل طلباته في نقله للمشفى، أمي زارته قبل ثلاثة أشهر من استشهاده وقالت: إن "وضعه صعب" وعبرت عن خوفها مما شاهدته، حتى أنه في آخر مدة لم يستطع السير على العكاز وأصبح طريحا يساعده الأسرى في نقله من خلال حمله".
ضعف في عضلات القلب، وألم مفاصل ينخر جسده، لا يقوى على الحركة، أوجاع أضيف إليها مياه على "الرئتين"، أدت لتدهور حالته الصحية، كانت سببًا في استشهاده، الغضب يندلع من صدر ابنه: "الاحتلال يتحمل المسؤولية، فاتبع سياسة الإهمال الطبي، حتى آخر لحظات عندما طرق الأسرى على الأبواب لم تستجب إدارة السجن إلا متأخرة".
الحسرة والأسى ترافق صوته: "حتى الآن احنا مصدومين، مش ضايله إلا سنتين ويروح! " ما يزيد حسرة ابنه أنه منذ ثلاثة أعوام لم يستطِع زيارة والده بذرائع أمنية.
"وحيد لأمه ووالده، كانا يتشوقان إليه، أخي الصغير محمد لم يصدق أن أبي استشهد بالسجن فيقول وهو يرفض تصديق الخبر: "أنا بستنى أبوي يجي"، فدائمًا كان يستيقظ من نومه يريد أبي، ويتمنى أن يصحبه للمدرسة، أو يأتي ليسأل عنه، حسرتي أنني لم أره، وأنني كبرت بعيدًا عنه وليس أمامه تمنيت أن يخرج ونذهب معًا للمناسبات" يختم بصوت متحشرج من بقايا بكاء يرافقه ألم وغصة.
كل أبنائه كانوا صغارًا لحظة اعتقاله، في لحظة انتظر أن يعوضوه عن وحدة الحياة بلا أشقاء ذكور، لينتقل إلى وحدة العزل عن والديه وأبنائه وأشقائه خلف قضبان الاحتلال، حرر الموت جسده وبقي جسده في ثلاجات الموتى لدى الاحتلال محتجزًا ليكمل العامين المتبقين في أبشع صور الظلم.